مسك الختام للعام - الحلقة (١)
من وحي الأيام
مسك الختام للعام
الحلقة (١)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ ، الهند
ودع العالَمُ أمسِ آخِر يوم من عام ٢٠٢٢ م ، واستقبل اليوم أول صباح من عام ٢٠٢٣م .
نعم ! انقضى عام ٢٠٢٢م ، وطوي ملفه، و سُجِّل في خانة :" الماضي " ، ولن يعود - كأي عام سلف، أو كأي يوم مضى، أو كأي لحظة غبرت - مرة أخرى . . إلى الأبد .
انقضى بكل ما فيه . . بخيره وشره .. وحلوه و مره . . وبأفراحه وأتراحه.
طبعا . . كان نصيبه - كجميع نظرائه- من الخير أقل وأضعف .. ومن الشر أدهى وأمر ..!
و -كذلك- كان حظه من الأفراح ما لا يجدر بالذكر منه إلا قليلا . . و من الأتراح ما يمكن أن يُعَدَّ الكثير منه من الفواجع والفظائع ...
و -كذلك- كان سهمه من الحلاوة خفيفا . . و من المرارة لاذعا . .
و هكذا كلُ عام ... كِفَّتُه من السلبيات ترجح كفتَه الأخرى من الإيجابيات . .
على كل ...انقضى عام ٢٠٢٢ م ، الذي شهد - كسوابقه - أحداثا صغيرة و كبيرة ، سارة و محزنة . . لسنا بصدد إحصائها .
و إنما نكتفي هنا بذكر أبرز حدثين اثنين فقط من أحداثه ... حدث يتعلق بالمآسي والنكبات ..
وحدث يستحق أن يعد : فرح الأفراح.. ومفخرة المفاخر . . و ذكرى الذكريات . .
حدث لجدير - كل الجدارة - بأن يُتفاءَل به . . ويُعتَبَر :"مسكَ الختام" للعام : ( ٢٠٢٢ ) الذي ودعناه قبل ساعات ...
إنه الحدث الرياضي التاريخي :" فيفا قطر " .. الذي انتهت فعالياته - أخيرا - في سلام وخير و أمان . .
الحدث الذي كان شاغل الزمان والمكان مدة استمراره ، و ستتردد صداه زمنا طويلا .. و يظل يشغل بذكراه الأيامَ والليالي مدة مديدة..
الحدث الذي صنع مأثرة .. و سطر تاريخا .. تاريخا يعتز به التاريخ العام نفسه .
ولقد فتح التاريخ بوابته الكبرى - على مصراعيها - لقطر - الصغيرة مساحة والعظيمة مكانة- ابتهاجا بصنيعها . . وترحيبا بمقدمها . . و احتفاء بمكانتها . . و تقديرا لإنجازها . .
إن قطر - بحكمة حكامها ولباقتهم وبعد نظرهم واستراجيتهم الموفقة- جعلت من هذا الحدث ملحمة تتلى أخبارها على مسامع الزمان .. وأنشودةً ينشدها الدهر،وقصيدةً يتغنى بها الشرق والغرب..و نِثارا شهيا تتحلب له الأفواه وتتلمظ الشفاه .
إن قطر نجحت .. بكل تحمل الكلمة من معان . .
نجحت نجاحا منقطع النظير، متعدد النواحي . . نخص بالذكر - منها -
: خمسة محاور بارزة :
المحور الأول : رياضيا..
المحور الثاني : إسلاميا
المحور الثالث : عربيا
المحور الرابع : ثقافيا
المحور الخامس: أمنيا
١- أما نجاح قطر رياضيا . . فقد كان المونديال القطري نسيج وحده في تاريخ المونديال بأجمعه . . فقد بذَّ -مونديال قطر- ما سبقه من أمثاله . . بشهادة المنصفين من أقطاب دنيا الرياضة وغيرهم من الخبراء والمطلعين والمتفرجين.
لقد كانت سخَّرت قطر جميع إمكانياتها وطاقاتها لتوفير كل نوع من الراحة والتسهيلات لضيوف المونديال، وجندت جنودها وشبابها استعدادا لهذا العرس الرياضي الدولي، فأحسنت الاستعداد بشكل أتم وأكمل وأشمل وأوسع مما لم يكن بحسبان أحد ..حيث وقف العالم على بكرة أبيه موقف الإعجاب والانبهار بحسن التخطيط و روعة التنظيم و عظيم العدة والعتاد، وتدريبِ طاقم المونديال على مستوى "الخدمة والعمل" المطلوب المنشود . . ولم يسجَّل أي خلل مما له صلة بالتنظيم أو الإدارة أو التجهيز و ما إلى ذلك، فكان كل شىء - من هذا القبيل - على أحسن وأكمل وأعلى ما يرام من المستوى الذي يتناسب ويتلاءم ضخامة المناسبة .
٢- أما نجاح قطر إسلاميا . . لقد كانت أعلنت - قبل بداية المونديال بأيام - على لسان بعض كبار مسؤوليها - أنها لن تغير دينها من أجل ٢٨ يوما .. فدينها أعز عليها وأحب إليها مما سواها من الدنيا بجميع ما فيها...
و قد أثبتت قطر جدية إعلانها بموقفها الصارم الحازم - غير المتزلزل - من كل ما يخالف تعليمات دينها، ولم تقبل - في ذلك- أي مرونة أو تسامح أو لين، فلا مداهنة في أمر الدين، و لا مساومة في العقيدة، ولا تعرُّضَ للثوابت، ولا تخاذل في التمسك بالقيم والمثل.
فالدين أعلى وأجل من أن يُرضٰى فيه بنوع من التسامح أو التهاون فضلا عن التنازل .. إرضاءً للغير . . أو باسم الانفتاح .. أو العصرنة .. أو تظرفا .. أو مراعاة للتقاليد ( المودرنة ) السائدة ..
ففي كل دين خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها ( تلك حدود الله ) .
ولم تبال قطر في ذلك بأي نقد أو سب أو شتم، أو همز ولمز، أوتَقَطُّب الجباه، أو عبوس الوجوه، أو بذاءات الألسنة، أو تهكمات الصحافة . .
فكان نجاح قطر على هذه الجبهة الخطرة الحرجة نجاحا فذا رفع قدرها في أعين الأصدقاء، وسبب القذى في أعين الغير. .
وتتصل بهذا المحور : قضية فلسطين التي فرضت وجودها على المناسبة،فقد ظل أمرها مرفوعا و عَلَمُها مرفرفا طوال أيام المناسبة، ولعلها نشطت وتحركت من جديد . . إن لم نقل : عاشت من جديد .. وأشعرت الأسرة الدولية بأهميتها وضرورة حلها - سريعا- في الإطار الإنساني العادل .
و كل ذلك ينم عن الاستراتجية الناضجة و الفهم الواعي و التخطيط القطري الحكيم لإعطاء القضية حقها من الإنصاف والاعتراف ولفت أنظار العالم إليها . .
٣- أما نجاح قطر عربيا ... فذلك تمثل في جمع العديد من الأشقاء - بعد أن كان بينهم ما كان .. - على منصة واحدة، الأمر الذي يعد -في حدذاته- إنجازا دبلوماسيا لا يستهان به.
كما تمثل ذلك في حسن الضيافة و كرم الوفادة ..فقد قامت قطر - حكومة وشعبا - باستضافة مئات الآلاف من ضيوف المونديال بالكرم العربي العريق، ووفرت لهم أقصى ما تستطيع من أسباب الإراحة وتسهيل الأمور والإجراءات .
٤- أما نجاح قطر ثقافيا: فحدث عن البحر و لا حرج . .
فقد وُفقت قطر أن حولت هذه المناسبة الرياضية العالمية إلى مهرجان إسلامي عربي ثقافي ... قدمت فيه نماذج رائعة من الحِكَم الإسلامية والتسامح الإسلامي والآداب الإسلامية عبر اللافتات واللاصقات واللوحات الجميلة.
كما انتهزت هذه المناسبة، فجعلت منها منبرا إعلاميا عالميا للدعوة الإسلامية ،التي تحمل كل خير و سعادة للإنسانية، فتأثر من تأثر بدعوة الخير هذه، كما دخل العديد - والحمد لله- في رحاب الإسلام .
٥- أما نجاح قطر أمنيا: يكفي دلالة على ذلك أنه لم تحدث واقعة واحدة تخل بالأمن العام . . لا لقطر و لا لضيوفها مدة إقامة المونديال، و لا سجلت حالة واحدة من التحرش بالنساء بشهادة النساء أنفسهن ممن حضرن المناسبة ..
شيء مدهش للغاية ... تتجمع مئات الآلاف من مختلف الأجناس والأعراق - من شتى أنحاء العالم- في مكان واحد . . و لا تقع واقعة تؤدي إلى الإخلال بالأمن وتعكير الجو الذي يسوده الفرح و المرح ..
إن ذلك أولا من فضل الله تعالى، ثم بفضل ما كان سبق المناسبة من عظيم الاستعداد وروعة التنظيم و دقة السيطرة و المراقبة للأمور والمرور وكل شبر من أرض الاحتفال.
إن قطر كانت معروفة -من ذي قبل- بخصائصها التي تميزها عن الكثير من شقيقاتها، و لكن ظهر - الآن- جوهر قطر الأصيل وشرف عرقها، وحرصها على التمسك بثوابتها ومبادئها، والاعتزاز بسماتها وشيمها، وإيثارُها أصالتَها وأساسَها وقيمَها على كل ما عداها من الأيديولوجيات والتقاليد والعادات والآداب الغَيرِيَّة.. ظهر كل ذلك أوضح وأصفى وأجمل وأروع ما يكون ... بحيث لم تبق شبهة أو شك لأحد في ذلك . .
إن الجهر بالاعتزاز بالشخصية الإسلامية - قولا وعملا- خاصة في مشهد عالمي وفي الظروف الحاضرة المعاكسة . . ليس بوسع كل أحد . . ما لم يكن هناك أساس قوي متين من الثقةالذاتية الراسخة الجذور، والإيمانِ الصادق بالمبادىء والمرتكزات الأساسية، والتمسكِ بالهويةالأصيلة والتراث العريق .
صحيح أن الأرجنتين فازت ببطولة كأس العالم في فيفا ٢٠٢٢م . . ولكن قطر سميت :" فاتحة الزمن " وحازت بطولة الثقة من عالمنا الإسلامي والعربي... الثقة بأصالة هويتها، وصدق انتمائها، وقوة صمودها، وجدية التزامها، وعزمها وحزمها بحكمة وعقلانية، ومرونةٍ وتسامحٍ فيما لايمس ثوابتها وموروثاتها وتقاليدها .
قوى الله قطر وثبتها وحفظها وصانها .
( فجر الأحد : ٨ من جمادى الثانية ١٤٤٤ھ = 1 من كانون الثاني- يناير- 2023م )
تعليقات
إرسال تعليق