أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي - الحلقة (٢)
شخصيات أعجبتني
أديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي
الحلقة (٢)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
لحظات مع سيرته الذاتية :
ذكريات علي الطنطاوي
لقد قرأت عدة كتب للطنطاوي رحمه الله، وتذوقتها وعشت معها متمتعا بروائعها وبدائعها، ونفائسها وفرائدها، وأعدت قراءة بعضها أكثر من مرة، لأن إعادة القراءة للكتاب - أي كتاب - مفيدة جدا، وهنا أحب أن أفيد القراء بتوجيه للأستاذ عباس محمود العقاد رحمه الله في فائدة قراءة الكتاب أكثر من مرة، فإن ذكر هذا التوجيه ينفع الشباب والطلاب خاصة، يقول :" .... هذه الندرة في الكتب التي تيسرت لي أيام التلمذة وما بعدها علمتني دستورا للمطالعة أدين به إلى الآن، وخلاصته أن كتابا تقرأه ثلاث مرات أنفع من ثلاثة كتب تقرأ كلا منها مرة واحدة " ( أنا : ٥١ ) .
إي والله! لقد أصاب العقاد المحز وطبق المفصل . . ، وقد قيل : "إذا تكرر تقرر" ... و : "التكرار يولد الاعتبار" ... والحقيقة أن التكرار والإعادة تثبّت الكتاب وترسّخه في الذاكرة، وتؤمّن الحفظ والبقاء والاستمرار -لأطول مدة - لمقروءات الإنسان ومطالَعاته .. ، وتزيد القاريء استفادة من الكتاب، وهضما لمادته، و تفاعلا مع محتوياته، واستيعابا لمعناه، وقد جرّبت أنا -شخصيا- أنني كلما أعدت قراءة كتاب، ازددت فائدة ومتعة و فهما لمادة الكتاب، وإدراكا لمعانيه، وغوصا في أعماقه.
أعود إلى الموضوع بعد هذا الاستطراد الذي تعرضت له للمناسبة، فكنت أتحدث عن مطالعة بعض كتب الطنطاوي مرات، لِمَا لمست فيها من الأدب الجذاب، والبيان الخلاب، والمتعة الفنية، واللغة الحية، والتعبير الماتع، والفكر النير الأصيل، والمادة الدسمة، والتمثيل الصحيح الجلي للفكرة الإسلامية، والإيمان الراسخ بالثوابت، والاقتناع التام بالمباديء، والاعتزاز الكامل بالهوية ، والعرض الشافي لحقائق الإسلام، وغير ذلك من الخصائص والمزايا ، ما أحل صاحبَها - الطنطاوي- من قلبي محلا خاصا، لم يَحِلّه إلا القليل من الأدباء، وجعلني مهتما بقراءة كتبه غاية الاهتمام .
ولكن أعظم ما أعجبني ونفعني - من كتبه - :" ذكريات علي الطنطاوي " ، الذي اعتبره من الكتب التي لا أنسى فضلها علي .
صدرت هذه المجموعة :" ذكريات علي الطنطاوي " في طبعتها الأخيرة في ثمانية أجزاء، تمتد عبر 3300 صفحة من القطع المتوسط، وهي
تضم مئتين وأربعا وأربعين حلقة من ذكريات الطنطاوي، التي نشرت في حلقات أسبوعية في مجلة ( المسلمون) أولا، وفي صحيفة( الشرق الأوسط ) لاحقا بين ١٩٨٥ و ١٩٨٦م
نقل الطنطاوي تقريظا عجيبا في كتابه هذا:" الذكريات " ، يقول :
" لقد قرأت مرة تقريظا لقصة يقول صاحبها، ولعله إميل فاكيه الفرنسي:" إني لا أتمنى إلا أن أنساها لأستمتع بقراءتها من جديد ". ( ٣/ ١٣٤ ).
الحقيقة أن هذا التقريظ ينطبق تماما على "كتاب الطنطاوي " هذا .. فالإنسان يتمنى أن ينساه، ليستمتع بقراءته من جديد، أو يتمنى أن يظل محتواه محفوظا محفورا في ذاكرته، ليدوم استمتاعه به، وتستمر استفادته منه ..
والكتاب هذا . . كواحة فيها أزهار كثيرة ذات روائح وألوان وأشكال مختلفة، وكل زهرة لها لونها الرائع الذي يجذب ناظره إليه، وشكلها البديع الذي يعجب كل من يراه، ورائحتها العبقة التي تعطر كل من يقربها ويشمها، ولا يكاد الإنسان يفضل زهرة على زهرة، لأن كل زهرة لها خصوصيتها، التي تكاد تجعلها شامة بين نظيراتها ....فيحار أيتها يختار ... وأيتها يقطف ... ؟
هكذا .. هذا الكتاب ... ففيه حاجة صاحب كل ذوق ومزاج ونفسية ..
فهو يمتع الأديب بأدبه ، كما يرضي الفقيه بالفقهيات ، و يفرح السائح بذكر الأماكن ،كما يقنع المؤرخ بذكر الوثائق ، ويلذ الفكاهيين والكوميديين بالنكت والطرف، كما يزود أصحاب الجد والوقار والرزانة بالعزائم والصوارم، ويتحف الشباب والطلاب بالنصائح الغالية كما يرشد المربين والمعلمين إلى التجارب الحكيمة والتجارب المفيدة، وينفخ الروح في أصحاب النضال والكفاح ذوي الطموح والهمم الوثابة التواقة إلى المجد والعلاء، ويملأهم حرارة وحماسة بالكلمات المثيرة للعواطف والمحركة للمشاعر، كما يعطي الراغبين في الصلاح والتقى جرعات روحية ويملأهم بشحنات إيمانية عبر كلمات الهدى والحكمة ..
ففيه - ذكريات الطنطاوي- إمتاع وإرضاء و مقنع وتسلية لجميع القراء والدارسين على اختلاف ألوانهم و أمزجتهم وأذواقهم ورغباتهم وهواياتهم ..
إن هذا الكتاب ليس سيرة ذاتية أملاها الطنطاوي اعتمادا على ذاكرته اللاقطة الواعية، أو سردا لأهم أحداث حياته التي مرت به، أو ذكرا لأبرز قضايا الأمة التي عاصرها الطنطاوي فقط . . ، بل إنه أكثرُ من ذلك بكثير و كثير .. كما أشرت فيما سبق من السطور ...
إنه يكاد يكون موسوعة صغيرة للمسيرة الإسلاميةالشاملة عبر القرون والأجيال .
كان الشيخ الطنطاوي عالما موسوعيا صاحب ذاكرة نادرة، لا يكاد ينفلت منها شيء، فكانت - ذاكرته- تحفظ تاريخ الإسلام .. فمن هنا .. كتابه هذا - ذكريات علي الطنطاوي - تجد فيه ذكرا أو إشارة إلى معظم أبرز الشخصيات و الأعلام في مختلف العلوم والفنون، و أهم قضايا الإسلام وأحداثه وفرقه وطوائفه وحركاته ، و مسيرة التدوين العلمي، وأهم المدن والعواصم الإسلامية، والأمكنة والمعالم التاريخية، وأبرز المدارس والجوامع والجامعات الإسلامية عبر التاريخ ، وما إلى ذلك من المتنوعات .
ومن الموضوعات التي تمكن حولها الكتابة -من خلال دراسة ذكريات الطنطاوي - . . ( كما أشار إليها الدكتور قميحة - في المقال المنشور في العدد الخاص بالطنطاوي من مجلة الأدب الإسلامي ) :
-الشخصية الإنسانية في الذكريات
-العروبة والإسلام في الذكريات
-الجانب الأخلاقي والتربوي في الذكريات
-الصورة الفنية فيها
-ظاهرة الاستطراد فيها
-روح الفكاهة والسخرية في الذكريات
أما الأمكنة التي جاء ذكرها في الذكريات، فهي -حسب وصف الدكتور جابر القميحة- : " موسوعة مترامية للأماكن المختلفة، أماكن في الشرق والغرب، ومختلف القارات، اتسعت للمدن والقرى، والجوامع والمساجد، والجامعات، والمدارس، والدور والمنازل، والوديان، والأنهار، والبحار، والبحيرات، والجبال، والبرك، والبراكين، والشعاب، والصحاري، والجسور، والخانات، والفنادق، والحمامات، والأحياء، والشوارع، والمقاهي، والمقابر، والمقامات، والمكتبات والحدائق والمنتزهات .
ثم الطنطاوي حينما يذكر " مكانا ما " لا يذكره ذكرا جغرافيا محضا، بل يذكره موصوفا بمشاعره وانطباعاته وصفا رائعا مؤثرا، إذا كان المكان مكانا يحتل أهمية تاريخية أو دينية أو من أي ناحية ، فقليلا ما يصف الطنطاوي المكان وصفا مجردا على طريقة المدرسين من الجغرافيين، كوصفه الدقيق المفصل لمدينة :" سر من رأى " ( سامرا ) ، وكذلك ما جاء على سبيل الإشارة والإيجاز الشديد، ويكون ذلك غالبا في الأماكن التي يمر بها مرورا سريعا، أو تلك التي لا تشد النظر ولا تشغل منه حيزا نفسيا .
كما قارن الدكتور قميحة بين " الذكريات " للطنطاوي و بين " مسيرة الحياة " - السيرة الذاتية للشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله- قائلا :" إن الندوي يلتقي مع الطنطاوي في صفة الموسوعية، وهو مثله عرض لمئات من الأماكن، من مدن وأقطار، وقرى، وأنهار، وشوارع ومدارس، ومساجد وصحار، وآثار، وكلاهما ( الندوي و الطنطاوي ) ينطلقان من منطلق دعوي عقدي بعاطفة دينية قوية جياشة، وكل منهما عاش لخدمة الإسلام والعلم والأمة الإسلامية، وحاول أن يؤدي رسالته هذه في حماسة وإخلاص".
ويلقي قميحة الضوء على بعض ما يميز السيرة الذاتية للندوي مستعرضا بعض النقاط التي تختلف فيها "الذكريات: عن "مسيرة الحياة" ، يقول :" سيرة الندوي أكثر انتظاما والتزاما بالتاريخ، وبعدا عن الاستطراد، كما كان أسلوبه -في أغلبه- أسلوبا مباشرا في معالجة موضوعاته، وهو أسلوب جاد ليس فيه خفة دم الطنطاوي وسخرياته المرة، وإن لم يخل من النقد الذاتي، والصراحة والنقد الاجتماعي، أو النقد السياسي ... و في إيجاز شديد نقرر أن الندوي عرض بعض الأمكنة مرتبطة بوقائعها وطوابعها التاريخية، والقيمية، وما تثيره في النفس من أشجان وآلام، أو آمال وطموحات " .( رجال من العرب والعجم للكاتب : ١٠١ وما بعدها ) .
على كل .. استفدت من هذا الكتاب :" ذكريات علي الطنطاوي " استفادة لم تحصل مثلها من أي كتاب آخر من كتبه، وأنا أنصح الشباب والطلاب بقراءة هذا الكتاب، فيجدون فيه من الفوائد والروائع والبدائع ما يقل مثله في كتابي أدبي آخر، يجدون فيه -إلى السيرة الذاتية للطنطاوي - الأدب، والتاريخ، والسير والتراجم لأساطين الإسلام، والطرف والنوادر، والقصص والحكايات، وتاريخ النضال الشامي .. وكل ما يمتع القاريء .
المصادر :
(١) عدد خاص بالطنطاوي من مجلة :" الأدب الإسلامي "، استفدنا من مقال الدكتور جابر القميحة، المنشور في العدد
(٢)محمد نعمان الدين الندوي: رجال من العرب والعجم.
دار حسان العربية، حيدرآباد، الهند،
الطبعة الأولى: ١٤٣٥ھ = ۲۰۱٤م
(٣) عباس محمود العقاد : أنا .
المكتبة العصرية، بيروت .
( العنوان القادم : " مختارات من الذكريات " بإذن الله تعالى ).
( ليلة الخميس : ١٦ من شعبان ١٤٤٤ھ = ٨ من آذار- مارس - ٢٠٢٣م )
تعليقات
إرسال تعليق