الفضل: أنواعه وحَمَلَتُه - الحلقة(٢)
في ظلال النعم الإلهية
الفضل: أنواعه وحَمَلَتُه
الحلقة(٢)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ ، الهند
(للشباب والطلاب خاصة)
من معاني «الفضل» ما يعَبَّر عنه بـ : «الإبداع» أو : «النبوغ» أو : «العظمة» أو : «العبقرية » أو : «الكمال» وما إلى ذلك من الكلمات.
هذا : «النبوغ» أو: «الإبداع» -ونحو ذلك من الصفات والخصائص- وإن كان من اختصاصات الإنسان أيضًا، ولونٌ من ألوان ذلك : «الفضل الإلهى» الذي كُرِّم به الإنسانُ وفُضِّل على غيره من المخلوقات.
ولكن هذا اللون - من ألوان الفضل - لا يعطاه كل إنسان.
أي لا يوهب الإنسان هذه المزية . . -مزية الإبداع والنبوغ- بمجرد كونه إنسانًا، بل الله سبحانه يتفضل على الإنسان بهذه المزية إذا رأى منه إقبالا عليها، وجِدًّا في نيلها، وحرصا على الظفر بها، فيمَكِّنه من النبوغ والبراعة في المجال الذي يختاره، فمن جدَّ وجد (وليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى)؛ فالإنسان لا يولد :«مبدعًا» أو : «نابغة» أو : «علَّامة»، أو : «عظيمًا» في أي فن من الفنون أو مجال من مجالات الحرفة أو الصنعة وما إلى ذلك، بل الإنسان نفسه -بتوفيق الله وبفضل جهده وكده وكدحه- يصل إلى مرحلة «الإبداع» و«النبوغ» و«العظمة» في مجال تخصصه.
والحقيقة أن كل إنسان عاقل ذي شعور وطموح، يخفق قلبه بالآمال العظام والأماني الكبار، فيتمنى -مثلًا- أن يكون رجلًا ذا شأن يشار إليه بالبنان، أو يبغي أن يكون نابغة، أو يريد أن يكون نجمًا متلألئًا في سماء الشرف، وأن يصل إلى الجوزاء، ويعتلي عرش العزة والفخار، وينصب في أرض المجد الأطنابَ.
ولكن ذلك كله لا يُنال بمجرد الإرادة أو التمني المحض؛ فهو -تحقيق الأماني- مركَبٌ ليس بالذلول، والعظمة لا يحظى بها إلا من يشق طريقه بالعصامية والطموح، والهمة والصمود:
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقـدام كــان لهـم ركـابـا
ومـا نيـل المطالـب بـالتمنـي
ولكــن تؤخـذ الــدنيـا غِـلابـا
نعم، فتحقيق المقاصد والوصول إلى العظمة لا يحصل بالرؤى الحلوة، أو التيه الكلامي أو الدعاوي العريضة أوالعنتريات الفارغة أو بأحلام: «جحا» -حسب المثل الأردي- ، أو استحلال شراب التواني، أو ارتداء ثوب البطالة، أو التزين برداء العطالة.
يا شباب! إن ذلك -ترجمة الأحلام إلى أرض الواقع- يتطلب العمل ثم العمل ثم العمل.
ودون البلوغ إلى المعالي شوك وقتاد!
ويحتاج ذلك إلى جبل من صدق العزيمة، وعزم الجد، والإرادة الصلبة الفولاذية كالحجارة المصمتة، وسلسلة طويلة من الكفاح والنضال، ورصيد ضخم من التعب والمشقة، والإتقان المبكر، واستثمار الفرص، ومسابقة الزمن، واستعذاب المر من التضحية بالراحة، واستطعام السهر، والعمل بقول من قال: « أنا لا أحب النوم ولا أستريح إلى الراحة».
لا يمكن الحصول على النبوغ، والبلوغُ إلى المعالى إلا أن يجد طالب ذلك، اللذةَ في المشقة، مثلما يجد العاشق في الوصال، كما كان قال الشاعر الجاهلي:
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرِكٍ المتَبَسِّم
يشبَّه الشاعر منازلته للأعداء بدنوه من حبيبته، فيجعل مقارعة الأعداء ومواضعَ الموت والردى كالحب والوصال، فيسهل له الخوض في ساحة الوغى، ولقاء العدى ..
وإلى ما يُشْبِه هذا المعنى يشير الإمام الشافعي رحمه الله في الأبيات التي تنسب إليه، يقول:
سَـهَـــري لتنقــيـح العـلــوم ألــذُّ لي
مِـــن وصــلِ غانيــة وطــيبِ عنـاقِ
وصـريـر أقـلامــي عـلـى صفـحاتـها
أحلــى مــن الـــدوكـــاء والعــشـاقِ
وألـــذُّ مــن نقــر الـفــتــاة لــدفــهــا
نقـري لألقـي الـرمـــل عـن أوراقــي
وتمـايُلـي طــربًــا لحـــل عــويصــة
في الدرس أشهى من مدامة ساقي
أأبيـت سـهـــرانَ الـدجـى وتبــيـتُــه
نـومًـــا وتبـغــي بعــد ذاك لـحــاقـي
فليس هناك طريق قصير -فضلًا عن أقصر طريق- للنجاح والحصول على المرام.
ولو كان الوصول إلى المجد والسؤدد والمكانة العالية بالتمني والإرادة فقط، لكان كل إنسان عظيمًا، وكان كل واحد نابغة أو مبدعًا أو عبقريًّا.
فلا يمكن بلوغ المعالي بدون التعب والمشقة إلا جاءت الصخرة بالماء الزلال:
لايدركُ المجدَ إلا سـيدٌ فطـنٌ
بما يشقُّ على السادات فَعَّـالُ
لو لا المشقة ساد الناسُ كلُّهمُ
الجــودُ يقفـر والإقـدام قتَّـالُ
وقال شاعر آخر:
ولم أجـد الإنسـان إلا ابــنَ سعـيِـه
فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرَا
وبالهمـة العلـيـاء ترقـى إلـى العُـلَا
فمـن كان أعلـى هـمـة كـان أظهـرا
ولـــم يتــأخـــرْ مَـــن أراد تقــدمًـا
ولـــم يتــقـــدمْ مَـــن أراد تأخُّـــرَا
يقول ابن الجوزي رحمه الله في الحث على بذل أقصى الجهد:
«فلو كانت النبوة -مثلًا- تأتي بكسب، لم يجز له أن يقنع بالولاية، أو تصور أن يكون مثلًا خليفة، لم يحسن به أن يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملَكًا لم يرض أن يكون بشرًا» (صيد الخاطر، ص: ١٦٩).
صحيح أن البعض يولد سعيدًا مغبوطًا موهوبًا، ممنوحًا له -من الله- من الصلاحية المدهشة والكفاءة النادرة، ما يستطيع به البروز والظهور واللمعان في سماء المجد والعلو بدون جهد يذكر، أو عرق أساله، أو تضحية قام بها، ولكن ذلك شاذ نادر جدًّا (والشاذ كالمعدوم، فلا اعتبار له).
فالنبوغ والإبداع، أو إنجاز عمل يترك بصماته في جبين التاريخ، ويخلف آثاره عبر الدهور، يتطلب جهدًا مضنيًا وعملًا متصلًا، وتضحية بالكثير من الراحة واللذة، وبما يُحَبُّ ويُشتَهى؛ فبقدر: «همة الإنسان واهتمامه، وبذله وتضحيته تكون مكانته، ولا يعطى له المجد جزافًا»،
و (الهمة كالمطاط كلما جررته انجرَّ)، و (من كانت بدايته محرقة كانت نهايته مشرقة).
يا من تطلب المعالي وما ارتقيت درج الجد . .؟
وتروم الحصاد ولم تزرع . . ؟
فيا من تريد أن تكون نهايتك مشرقة اجعل بدايتك محرقة، مُضنِية، مُتعبة، تحُز الفضل وتنل المجد، ويُخَلَّد اسمك في التاريخ، و «شمر عن ساعد المسعى، وأبشر بحسن الرُّجعى»؛ فالنجاح قطرات من الآهات والزفرات والجهد، وحبَّاتُ العرق تصنع المعجزات، والنجاح مرهون بمدى الجد والجهاد، والصبر والكفاح، و (الشرف بالهمم العالية لا بالرمم البالية)
إنَّ للجـدِّ كيـمـيــاء إذا مـا
مـسَّ كلـبًـا أحالـه إنسـانَـا
يفعلُ اللهُ ما يشاء كما شا
ء متـى شاء كائنًا مـا كانَـا
وقالوا: «الهمة أعلى من الخبرة» فلا شك أن الهمة العالية هي في الحقيقة مفتاح النجاح والنبوغ، وسرالتقدم والخلود.
والتاريخ لا يصنعه المُهرِّجُون، وإنما يصنعه المضحون بالراحة والنفس والنفيس.
والمجد ما يأتي بالهبة ولكن يحصل بالمناهبة!
وهناك مقولة رائعة تقول: «العظيم يبني النجاح من النجاح، والأكثر عظمة يبني النجاح من حطام».
وللمُجِد المُنْجِح لذةُ الإدراك وحلاوةُ الظفر . . وللكسلانِ المحروم حسرةُ اليأس ومرارةُ الحرمان . .
فالله الله في الاهتمام بالهمة، وسَلِّ سيفِها في غمرات الحياة:
هو الجِدُّ حتى تفضل العين أختها
وحتـى يكـون اليـوم لليـوم سيدَا
(ليلة الجمعة المباركة : ٦ من جمادى الآخرة ١٤٤٤ھ = ٢٩ من كانون الأول- ديسمبر- ٢٠٢٢م )
تعليقات
إرسال تعليق