الفضل: أنواعه وحمَلَتُه - الحلقة (٣)
في ظلال النعم الربانية:
الفضل: أنواعه وحمَلَتُه
الحلقة (٣)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ ، الهند
(للشباب والطلاب خاصة)
وقدر كل امرىء ما كان يحسنه
وللـرجال علـى الأفعـال سيمـاء
من أولى دعائم الحصول على هذا : «الفضل» -الذي يسمى: الإبداع والنبوغ وما إلى ذلك . . - معرفةُ المرء: «للموهبة/ المواهب» التي يودعها الرب جل وعلا كل إنسان.
فاكتشافُ الإنسان لِما مُنح من: صلاحية خاصة، وقدرة متميزة حجرُ الأساس أو اللبنةُ الأولى في بناء الشخصية وتكوين الذات وطريق الصعود إلى ما يتوخاه الإنسان من المجد والرفعة .
فكل صاحب إبداع يجد قيمته في عمله الإبداعي ومجال تخصصه؛ فقيمة كل امرىء ما يحسنه.
فالعلم -مثلًا- بحر لا ساحل له؛ فعلى الرجل أن يختار من أنواع العلم وفنون المعرفة ما يجد رغبة خاصة في تحصيله، وقد قال بعض كبار أهل العلم: «اقصد من أصناف العلم إلى ما هو أشهى لنفسك، وأخفُّ على قلبك، فإن نفاذك فيه على حسب شهوتك له، وسهولته عليك».
ويقول ابن سيرين -وهو يشير إلى الانتقاء في عملية التقاط اللآلي والدرر من بحر العلم الزخار- : «العلم أكثر من أن يحاط به، فخذوا من كل شيء أحسنه، وفيما بين ذلك سقطات الرأي وزلل القول، ولكل عالم هفوة، ولكل صارم نبوة».
صقل الموهبة:
فاكتشاف المرء لموهبته مرحلة أساسية في طريق النجاح، وتتلوها مرحلة مهمة لا تقل خطورة عن سابقتها، وهي مرحلة «الصقل والشحذ والإتقان والإحسان»؛ فلا يكفي- كما قال بعض أهل العلم- : «أن نعرف أن قيمتنا في هذه المهنة أوتلك الموهبة، أو في آفاق تلك العلوم؛ فكما هو جميل أن يعي الإنسان خطوط قيمته في ذاته؛ فإنه أجمل ورائع جدًّا أن يعمل على أن يرفع من قيمته بإتقان ما يحسنه من موهبة أو حرفة أو علم بكثرة الاطلاع وجودة الحفظ والمثابرة في إنماء ما في ذاته من قيمة، هذه القيمة هي التي ينبغي أن يفطن إلى جوهرها، ويضع قيمته في مواطن الاختيار وفواصل الآمال والطموحات المستقبلية».(جريدة «الندوة» المكية، ١٨ من ربيع الأول ١٤٢٤ه).
فلا بد لصاحب الطموح والتوق إلى المعالي من بذل الوسع بل واستفراغه في إتقان «الموهبة» التي حباه الله بها، فالعكوف على إجادة «القيمة» وصقلها يرفع من مكانة صاحبها، ولا يبالِ بالعوائق والمثبطات مهما كانت كبيرة وقاصمة للظهر، والحقيقة أن ذا الهمة والعزيمة يشعر باللذة والمتعة عندما يواجه الشدائد والعراقيل في طريق مطامحه وآماله، ويتمثل بقول أبي فِراس الحَمْداني:
فليتك تحلـو والحيـاة مريـرة
وليتك ترضى والأنـام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر
وبيني وبين خـراب العـالمـين
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذي فوق التـراب تـراب
ذكر ابن القيم أن قيمة الإنسان همته، وماذا يريد؟
أما العيش سبهللًا على هامش الحياة، والإغراق في الملذات والتمتع بالرغبات، وإشباع الشهوات؛ فذلك لا يرفع شأنًا، ولا ينشىء نبوغًا، ولا يؤثل مجدًا، ولا يصنع مفخرة.
...............................................
تحدثنا فيما مضى من السطور، عن نوع خاص من أنواع:" الفضل ".
هذا الفضل صعب من الناحيتين .. ناحية الحصول عليه ..و ناحية الاعتراف به.
فكما مر .. لايمكن نيله إلا بمشقة أي مشقة ...
ثم إذا ناله الإنسان بعد لأي ... لم يجد أحدا منبها على فضل منه . . و إن عرفه فيه، ولم يظفر بالاعتراف به من بني جنسه إلا نادرا ...
فقديما قالوا :
: " المعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ ". و:
"المعاصرة سبب المنافرة " .
على أن فضل ذي الفضل لا يضار بإنكار منكر أو جحود جاحد ..
و هناك حقيقة أخرى تتمثل في المقولة الشائعة:
" إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه " .
و من العقلانية أن لا يلتفت المرء إلى تقدير مقدر أو جحود جاحد، فقد قال بعض العارفين :" لا يشكو جحود الناس لفضله إلا من كان همه ثناء الناس عليه، ولا يزهد في ثناء الناس إلا من كانت وجهته : اللهَ، ورغبته في رضوانه، ولا يصل إنسان إلى هذا المقام إلا بالتوفيق من الله و إحسان " .
المهم والمطلوب من الطامح أن لا يرى يمينا و لا يسارا، بل يمضي في طريقه، كادًّا كادحا، ناظرا إلى الأمام ، غير عابىء بالمثبّطات والمعوقات :
و من تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
جاعلا نصب عينيه قول الرافعي :
" إذا لم تزد شيئا على الحياة صرت زائدا على الحياة " .
فلا يكن الإنسان شيئا زائدا على الحياة . . أو عبئا ثقيلا عليها . . أو يعيش كنبات طفيلي يستهلك ولا ينتج . . بل يحاول أن يثريها بإنجاز يقوم به، أو مجد يؤثله، أو صنيعة يصنعها .
فمستقبلك - يا هاوي المجد والحريص على إدراك الفضل - بيدك أنت . . فإن شئت تكن سعيدا مغبوطا ذا فضل وعظمة . . ، و إن شئت تكن إنسانا نكرة شقيا غير ذي قيمة ولا كرامة . . سواء محياك ومماتك . . ، ولا يستسلم للقدر إلا من فقد إرادته، وأضاع إنسانيته، والله هو الهادي إلى الصواب.
(الجمعة : ١٣ من جمادى الثانية ١٤٤٤ھ = ٦ من كانون الثاني -يناير- ٢٠٢٣م ) .
تعليقات
إرسال تعليق