رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للأدباء (٢)
على مائدة العلم والأدب
رسول الله صلى الله عليه وسلم
المثل الأعلى للأدباء (٢)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
الخطبة النبوية بمناسبة الكسوف .
*وإعجازها في إيجازها* :
من حديث الكسوف، الذي روته عائشة - رضي الله عنها - قالت : « .... ثم قام فخطب، فأثنى على الله بما أهله، ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة » . (١)
*أدب الدفاع عن الحق في شكل لا نظير له*:
هل يستطيع تاريخ الإنسانية كلها - على امتداده الغارق في القدم - أن يقدم رجلًا واحدًا دافع عن الحق، وضرب على الخرافات والأوهام، واقتلعها من أساسها، وقال كلمة الحق في مثل هذا الوقت الدقيق الذي تزل فيه أقدام الرجال الذين قالوا كلمة الحق مدى الحياة، ومثل هذه المناسبة العاطفية التي تغري الإنسان بما لا ينبغي له، وتحمله على التغاضي عما يجري حوله - ضنًّا بكرامته - مثله صلى الله عليه و سلم .
وهل يستطيع ذو اطلاع واسع كبير ودراسة عميقة دقيقة بتاريخ الآداب والخطابات - على غناها واختلاف لغاتها - أن يقدم ولو خطبة واحدة كهذه الخطبة - في بلاغتها وإعجازها وإيجازها واتساع معناها وعمق محتواها ... - ؟؟
وهل يستطيع بليغ من البلغاء أو أديب من الأدباء أو أمير من أمراء البيان العربي أن يأتي بمثل هذه الخطبة .. ثم يدعي أنه أعطاها حقها من البلاغة والبيان، وأدى هذه المعاني الكثيرة في كلمات مثل كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم .. ؟؟
وهل يستطيع . . . أن يزيد كلمات على كلمات الخطبة النبوية، ثم يزعم بأنه زاد المعنى أيما زيادة .. ؟؟
كلا .. إنها بلاغة، ليست فوقها على وجه الأرض بلاغة، وقمة من البيان لا يستطيع أن يتصور الوصول إلى أي مستوى منها ..
إنه إيجاز من أعطي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارًا، وأعطي من البلاغة الحظُ الأوفر، الذي لم يكن من نصيب أحد لا قبله ولا بعده صلى الله عليه و سلم .
* * *
*أدب الدعاء التوديعي النبوي*:
عن ابن عمر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا ودّع رجلًا، أخذه بيده، فلا يدعها حتى يكون الرجل هو يدع النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول : « استودع الله دينتك وأمانتك وآخر عملك » . (٢)
*الإيجاز المحكم البليغ وجمال الفقرات المتوازنة*:
نعم . إنه إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم، أنه جمع المعاني الكثيرة في كلمات موحية متوازنة، عددها أقل من فحواها بكثير وكثير ..
فأي إحكام بليغ يوجد - في عبارة - أحسن وأدق من هذه العبارة الجميلة القصيرة، التي يضمها هذا الدعاء النبوي التوديعي ؟
وأي أدب فيه من هذا الجمال ؟ جمال الفقرات .. وجمال المعنى .. وغزارته على قلة الألفاظ .
وأي إيجاز يصل إلى أي مستوى من هذا الإيجاز النبوي المعجز البليغ المحكم ؟
وأي سهولة في أداء الكلمات أسهل من سهولة هذه الألفاظ النبوية ؟
وأي زاد أكرم وأثمن للمسافرين من هذا الزاد النبوي الذي كان يزودهم به ؟
وأي متاع أبقى - على ضآلته ظاهرًا - من هذا المتاع النبوي المبارك ؟
*جامعية الدعاء التوديعي*:
إن هذه الكلمات القصيرة السهلة في النطق، العذبة في الأداء، التي كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم لدى توديعه للمسافر، إنها لم تغادر من الشريعة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، فكلمة : ( الدين ) تعني جميع ما على المرء من حقوق الله من العبادات والطاعات والفرائض والواجبات، وأما كلمة : ( أمانتك ) ، فقد أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم جميع ما على الإنسان من حقوق تجاه العباد، وأخلاق ظاهرة فاضلة وآداب اجتماعية إنسانية، من حسن الخلق، وأداء الأمانة، والنصح للمسلم، وصدق القول، وعمل الخير، ونزاهة السلوك و ما إلى ذلك من الحقوق والواجبات والفضائل والمكرمات .
و : « آخر عملك » .. هذا هو ختام المسك الذي كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم للمسافر، فإن العبرة بالخواتيم، ويمكن أن يكون المعنى : أن يكون آخر عملك .. أي سفرك مكللًا بالتوفيق والنجاح، والاكتمال في خير وعافية .
ويمكن أن يُطلَق المعنى .. فيراد : أخر كل عملك . . عمل : « السفر » ، عمل : « القيام بأمرٍ » ، عمل : « الشروع في مهمة » .. إلى كل عمل من أعمالك في الحياة ... ثم نهاية حياتك .. ، فالأعمال التي تعتبر عند الله، هي : آخرها .. إن خيرًا فخير .. وإن شرًّا فشرّ !
اللهم احفظنا من سوء الخاتمة، وأحسن عاقبتنا يا أرحم الراحمين !
* * *
*روائع من دعاء : « العيادة » النبوي*:
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعود بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول : « اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا » . (٣)
هذا الحديث : « العيادي » هو الآخر نسيج وحده - مثل الدعاء التوديعي - في قلة ألفاظه، وكثرة معانيه، وبساطته وإعجازه، وجمال تعبيره، وتناغمه الرائع، فلننظر هذا اللحن الجميل وهذه الموسيقى العذبة، التي تتكرر بتكرار : « السين » في : [ البأس ] و : [ رب الناس ] ، وهذه النغمة المطربة الناشئة بتعداد : « الشين » في مختلف الصيغ من : [ الشفاء ] و في : [ اشف ] و : [ أنت الشافي ] و [ لا شفاء ] و : [ إلا شفاؤك ] و [ شفاء ] .
فهذا التكرار الحاني، وهذا الحداء المطرب الناشىء من كلمة واحدة : [ الشفاء ] في جملة واحدة قصيرة يمتع السمع تمتيعًا، ويحرك عاطفة الطرب والانفعال، و يجعل المريض يكاد يبرؤ من مرضه، ويفقد ألم سقمه، و يشعر بالراحة والأمن والهدوء، ويهتز - طربًا - بنغمة هذه الكلمات المباركات ووقعها السحري، ويصير وكأنه زال عنه سقمه، وبعد عنه مرضه،وعادت إليه صحته كأتم وأحسن ما يكون، وكفاه هذا الدعاء دواء وشفاء . .
والحقيقة أن الناظر في الحديث الشريف، يجد الروعة في أوج علوها، والبيان في أبهى صوره، الذي يخاطب الأغوار والأعماق، ويصل إلى القرار .
الهوامش والمراجع :
(١) رواه البخاري ومسلم
(٢) رواه الترمذي : أبواب الدعوات .
(٣) متفق عليه
(يتبع)
( ليلة الاثنين : ١٥ من رييع الأول ١٤٤٧ ھ = ٧ من سبتمبر - أيلول - ٢٠٢٥ م
تعليقات
إرسال تعليق