أذل الحرص والطمع الرقابا
على مائدة العلم والأدب
أذل الحرص والطمع الرقابا
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
الطمع والعفاف صفتان متضادتان، لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد، أولاهما قبيحة، والأخرى محمودة، فحامل الصفة الأولى ساقط عن الأعين، منظور إليه بنظرة الدون والاحتقار، بينما المتحلي بالأخرى محترَمٌ شريف عزيز ملء السمع والبصر ..
فالأولى ( الطمع ) رذيلة من الرذائل، بينما الثانية ( العفاف ) فضيلة من الفضائل ..
ولكن - من العجب، و للأسف - عدد حاملي الصفة الأولى يفوق - أضعافًا مضاعفة - عدد المتحلين بالصفة الثانية ..
حامل الصفة الأولى يكون فاقدًا للغيرة والضمير والحياء والشرف .. فلا يشعر بتأنيب الضمير، ووخز النفس، ويتجاهل لوم اللائمين وكره الكارهين لصفته، التي تنم عن سوء الطوية ودناءة الطبع وخساسة الفطرة .
بينما الذي يزدان بالصفة الثانية يكون صاحب غيرة وحمية وإباء، مما يشير إلى نبل الطبيعة وكرم المحتد وطيب السجية .
والطمع لم يكن صفة محمودة قط، كما أن العفاف ما زال منذ قديم مما يزدان بالانتساب إليه النبلاء والأشراف، فهناك بيت معروف - قاله الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد - في هذا المعنى :
يخبرك من شهد الوقيعة أنني
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
والحقيقة أن الطمع يذل صاحبه، قال أبو العتاهية :
أذل الحرص والطمع الرقابا
وقد يعفو الكريم إذا استرابا
وقالوا : لكل أمة وثن، وصنم هذه الأمة الجشع والطمع ..
وأيضا قالوا : الإنسان حُرّ سيدُ نفسه إذا شعر بالقناعة، وعبد لغيره إذا كان طمّاعًا ..
فلا ذل إلا في الطمع، والعز في القناعة .
وقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على الأنصار اتصافهم بالعفاف، و ابتعادهم عن الطمع، قائلًا : « إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع » . (١) .
وقد رأينا بأم أعيننا كثيرًا من معارفنا ممن كانت لهم مكانة احترام وتقدير في المجتمع لمزايا حباهم الله بها، ولكنهم لما أصيبوا بشيء مما تشم منه رائحة الطمع، نقصت منزلتهم، بل انحطت ونزلت إلى القعر، وسقطوا عن الأعين، والذي يسقط عن العين لا يقوم ولا ينهض أبدًا .
بينما العفاف والإباء والمروءة ترفع قدر أصحابها عند الله وعند الناس، وكان سلفنا الصالح كانت عندهم حساسية زائدة في ذلك .. فمما ينسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله قوله : " لو علمت أن شرب الماء البارد يثلم مروءتي ما شربته " ، وهو الذي قال :
أمطري لؤلؤًا جبال سرنديب
وفيضي آبار تكرور تبرًا
أنا إن عشت لست أعدم قوتا
وإذا مت لست أعدم قبرًا
همتي همة الملوك ونفسي
نفس حر ترى المذلة كفرًا
وقال - أيضًا - في أبيات منسوبة إليه :
اذا المرء لا يرعاك إلا تكلفًا
فدعه و لا تكثر عليه تأسفًا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة
وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
وهناك بيت معروف في إباء الذل :
لا تسقني ماء الحياة بذلة
بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
وأيضًا :
اهجر قصور الذل لو هي من ذهب
واسكن بيوت العز لو كانت خراْبْ
فأنت أيها القارىء بين الخيارين .. إما عيش الذل في القصر، أو عيش العز في الكوخ .
إما أن تعيش حرًّا كريمًا سيد نفسك .. وذلك إذا كنت صاحب قناعة وعفاف وإباء ..
وإما أن تعيش عبدًا لغيرك .. وذلك إذا كنت طماعًا جشِعًا ..
ولا إخالك إلا أنك تختار حياة العز والشرف بتفضيلك القناعةَ والعفافَ على الحرص والطمع ..
أعزني الله وإياك في الدنيا والآخرة !
الهوامش :
(١) ذكره الخطابي في غريب الحديث (١/ ٦٨٢) ، وقد نسبه صاحب كنز العمال(٣٧٩٥١) إلى العسكري في الأمثال .
( الجمعة : ١٢ من ربيع الأول ١٤٤٧ھ= 5 من سبتمبر - أيلول - 2025م )
تعليقات
إرسال تعليق