محمد الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للأدباء (٤)

 على مائدة العلم والأدب

محمد الرسول صلى الله عليه وسلم
  المثل الأعلى للأدباء (٤)


محمد نعمان الدين الندوي 
لكناؤ، الهند

ما زال الكلام مستمرًّا في جوامع كلمه صلى الله عليه و سلم، وفي هذه الحلقة نقدم نماذج رائعة من جوامع استعاراته ومطابقاته وتجنيساته صلى الله عليه وسلم .

١- إن الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض . (١)
٢- إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع . (٢) 
٣- ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا . (٣)

*إن الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض*:
هذا الحديث من جوامع استعاراته صلى الله عليه وسلم، والاستعارة فن رائع من علم البيان، وقال علماء البلاغة في تعريف الاستعارة : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، لعلاقة المشابهة، وهي مبنية على تناسي التشبيه وادعاء أن المشبه عين المشبه به، أو فرد من أفراده . (٤) 
هنا استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة « رائد » لـ : « الحُمّى » ، والرائد الذي يتقدم الجيش أو القوم، والعلاقة قوية، وهو « التقدم » ، حيث إن « الحمى » تتقدم الموت على حين « الرائد » يتقدم الجيش .
كذلك استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظًا آخر : « سجن » لـ « الحمى » لعلاقة الأسر والشدة ... فلننظر كيف بين الرسول صلى الله عليه وسلم شدة الحمى وإزعاجها الإنسان المصابَ بها، وترْكَها اياه فاقد الرشد والوعي، أسيرًا في البيت، بيّن كل ذلك في كلمات عديدة بواسطة الاستعارة الرائعة، بأسلوب رشيق، في عبارة مزدانة بالاستعارة : « الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض » .

* * *

*إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع*: 
هذا الأسلوب من الكلام يسمى : " المقابلة " ، وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر بما يقابل ذلك على الترتيب، والمقابلة في الكلام من أسباب حسنه وإيضاح معانيه على شرط أن تتاح للمتكلم عفوًا فيض الخاطر، أما إذا تكلفها وجرى مجراها، فإنها تعتقل المعاني وتحبسها، وتحرم الكلام السلامة والسهولة، والرونق والبهاء . (٥)
أي ثناء يمكن أن يكون أبلغ من هذا الثناء .. ؟ الثناء للأنصار على إبائهم، وعدم طمعهم، وتضحياتهم بنفائسهم ونفوسهم، وشوقهم إلى الجهاد والشهادة في سبيل الله .
وأي أسلوب للثناء أحسن من هذا الأسلوب الثَنائي النبوي المرصع بفن رائع من علم البيان .
لقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم مكارم الأنصار ومحامدهم، وإيثارَهم - إخوانَهم المهاجرين - على أنفسهم، وشوقَهم إلى الخروج في سبيل الله، وتاريخَ نضالهم وكفاحهم، وما إلى ذلك من صفاتهم وخصائهم الحميدة في جملتين قصيرتين جميلتين : « إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع » .

* * *

*إن ذا الوجهين لا يكون وجيهًا عند الله*:
إن هذا الأسلوب من الكلام يسمى في علم البلاغة : « الجناس » أو : « التجنيس » ، وهو : بيان المعاني بأنواع من الكلام يجمعها أصل واحد من اللغة .
وهذا النوع من الكلام الذي استعمل في الحديث الشريف يسمى : « جناس الاقتضاب » ، وهو أن يكون الركنان اسمين كما في الحديث الشريف، والجناس من محسنات الكلام وفنونه البديعة يزيد الكلام روعة وجمالًا .
معنى الحديث الشريف :
إن المرائي المنافق الإمّع الذي إذا لقي الإنسان، قال: أنا معك، وإذا لقي خصمه، قال له : أنا معك .. هذا المرائي لا يكون شريفًا محترمًا عند الله .
إن هذا المرائي المنافق ذا الوجهين إذا انكشفت حاله، وظهر التواء باطنه على الناس، يعود بغيضًا عند الناس، فكيف لا يكون بغيضًا عند الله الذي يقول :{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار }.
وهناك عشرات من الأقوال الحكيمة النبوية المعجزة - من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم - التي تبين الحقائق اليومية والمعاملات الإنسانية والأخلاق الحميدة في أمثال هذه الأقوال الشريفة التي ذكرناها فيما أعلاه .

           ( يتبع )
                                      
الهوامش : 
(١) رواه الطبراني 
(٢) ذكره الخطابي في غريب الحديث : ١/ ٦٨٢ ، والأحاديث الصحيحة في مناقب الأنصار كثيرة، تغني كثرتها عن الضعيف، والله المستعان .
(٣) كتاب شرح صحيح البخاري لابن بطال .
(٤) أبو طاهر محمود السواكني الأزهري : الجواهر اللماعة في قواعد البلاغة، ص ٥٦ ، مطبعة الاستقامة .
(٥) مصطفى أمين - علي الجارم : البلاغة الواضحة، ص ٢٨٠ ، طبعة لكهنؤ، الهند .

( الاثنين : ٢٩ من ربيع الأول ١٤٤٧ھ = ٢٢ من سبتمبر - أيلول - ٢٠٢٥م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده