محمد الرسول صلى الله عليه وسل مالمثل الأعلى للأدباء(٣)

 على مائدة العلم والأدب

محمد الرسول صلى الله عليه وسل
مالمثل الأعلى للأدباء(٣)


محمد نعمان الدين الندوي 
لكناؤ، الهند 

*جوامع الكلم*:

قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أوتيت جوامع الكلم » (١) .
" جوامع " جمع جامع، أي ما قلّ لفظه وكثر معناه، " الكلم " جمع كلمة، أي كلام النبي القليل الألفاظ، الكثير المعاني .. تلك عين البلاغة. 
*تنويه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيجاز*:
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يقول لرجل : [ كفاك الله ما أهمك ] ، فقال صلى الله عليه وسلم : « هذه البلاغة » ، وسمع آخر يقول : عصمك الله من المكاره ، فقال : « هذه البلاغة » . (٢) وقال للذي أطال الكلام : كم دون لسانك من حجاب ؟ فقال : شفتاي وأسناني ، فقال : « إن الله يكره الانبعاق في الكلام » . (٣) 

*نماذج من جوامع كلمه صلى الله عليه و سلم*:

١- عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » . (٤) 
*مجمع الآداب*:
إن هذا الحديث الشريف نموذج رائع من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم .
فمن المزايا البيانية النبوية الكبرى أنها تؤدي المعنى الكثير في اللفظ القليل مع إحكام الأسلوب وبدون إخلال بالمعنى أو تكلف وعناء، و هذا الحديث من أحسن النماذج في هذا الباب .
إن هذا الحديث يوصي الإنسان المسلم بترك ما لا يعنيه من الأعمال والأقوال، والانصراف إلى ما تنبغي العناية به من المهام والمسؤوليات .
ثم إن هذه الأعمال التي جعل الرسول صلى الله عليه و سلم تركها من حسن إسلام المرء، إنما هي كثيرة لا تعد ولا تحصى، وتختلف باختلاف الإنسان، فهذا العمل يعد مما لا يعني هذا الرجل، على حين قد يكون بالنسبة للآخر مما يعنيه .
لقد آثر الحديث الشريف ذكر : " الإسلام " على : " الإيمان " ، لأن الإسلام هو الذي يظهر، إذ هو الأعمال الظاهرة التي يتأتى فيها الترك والفعل اختيارًا، وهذا يدل على دقة الرسول عليه الصلاة والسلام في اختيار كلماته المعبرة عن المعنى أصدق تعبير .
وقال الأئمة بحق : إن هذا الحديث مجمع الآداب وينبوع الحكم، وأنه لم يدع فضيلة إلا رغّب فيها، ولا نقيصة إلا نفّر منها . (٥) 

*كلمات لا تتجاوز عدد الأصابع ولكن لها بحرًا من المعاني*:

                                       * * * 
٢- عن النبي صلى الله عليه و سلم يقول : « وتبسمك في وجه أخيك صدقة » . (٦)
يقول الأستاذ محمد قطب الشهيد رحمه الله في كتابه : [ قبسات من الرسول ] : " هذا الحديث العجيب لا يملك الإنسان أن يمر به دون أن يقف عنده لحظات، يتدبر بعض معانيه، وإن له لإيحاءات شتى، يدق بعضها ويلطف، حتى يصل إلى أعماق النفس، إلى قرار الوجدان، فيهزه هزًّا، ويُوَقّع على أوتار القلب لحنًا صافيًا مشرقًا جميلًا يأخذ بالألباب.
" والصدقة في مفهومها التقليدي نقود وأشياء محسوسة، يساعد بها الغني الفقير، ويمنحها القوي الضعيف، ولكن الحديث النبوي يخرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق إلى معناها النفسي، وهنا تتفتح على رحيب ليست له حدود .. كل خير صدقة .. وعلى كل امرىء صدقة .
والرسول الكريم يلفتنا في حديثه إليها، يلفتنا إلى هذه الحقيقة النفسية الواحدة التي تكمن وراء كل عمل من أعمال الخير، لنعرف أنه الخير في منبعه، وإن تعددت صوره ومزاياه .
" وتبدو حكمة الرسول في توسيع مدى الخير، وتعديد صوره وأشكاله وتبسيطها كذلك حتى تصبح في متناول يد كل إنسان .
" فلو كانت : " الصدقة " أو الخير مقصورًا على المحسوسات و الأموال، فسيعجز عنها كثير من أفراد البشرية، وتبقى ينابيع ثروة في باطن النفوس لا يستثمرها أحد، ولا يستنبط من معينها الغزير " . (٧)
ولننظر مفردات الحديث الشريف، التي لا تتجاوز الكلمات الأربع : « وتبسمك في وجه أخيك صدقة » الخفيفة على اللسان، الثقيلة في الميزان، ميزان الروعة والبلاغة والتأثير، ولنتدبر المعاني الغزيرة، التي يشتمل عليها الحديث الشريف، مما أشار إلى كثير منها الأستاذ محمد قطب رحمه الله .
حقًّا .. إنه تفسير واقعيّ حيّ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « أعطيت جوامع الكلم » .

* * *

٣- « إنما الناس كالإبل المئة، لا تكاد تجد فيها راحلة » . (٨) 
*تشبيه رائع*:
شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالإبل لجامع ندرة أهل الخير فيهما، فترى أمامك عددًا كبيرًا من الجِمال أو النوق، ولكن قلما تجد منها من يكون أهلًا للسير والحمل . . . كذلك بحر من البشر . . . ولكن كالأنعام . . لا نكاد نجد فيهم من أصحاب الخير والفضل والشرف إلا كعنقاء مغرب . . ولنلاحظ دقة اختيار كلمة : [ الإبل ] ، التي جاءت في التشبيه النبوي الكريم، فإن الإبل كانت جزءًا من حياتهم، وعليها كان معاشهم وتنقلاتهم ورحلاتهم، وكان العرب أهل خبرة وعلم بأخلاق : « الإبل » وعاداتها وصفاتها، وكانوا يعلمون كل العلم في ذلك .. ، فمن هنا .. كان التشبيه بـ : « الإبل » أروع وأدق وأوضح من أي تشبيه آخر، فكان التشبيه جامعة فريدة من جوامع كلمه، وآية في الدقة وقلة اللفظ وغزارة المعنى .

* * *

٤- « إن للقلوب صدأ كصدأ الحديد » . (٩)
*التمثيل الحكيم*:
ينبه الرسول صلى الله عليه و سلم بهذا التمثيل الحكيم إلى شر مستطير وداء عضال خطير مصحوبًا بوصف دواء ناجع، وهو دواء القلوب وعلاجها من وسخها وقذارتها بسبب الذنوب والآثام . . . فتفقد هذه القلوب رونقها وبهاءها ونورها، فتصير كالحديد الذي أصابه الصدأ، فيعود سيء المنظر، وغير قابل للاستعمال . . ، فبالصقل يعود إليه رونقه ولمعانه .. وهكذا القلوب لا يبعد عنها ظلامها وصدؤها إلا بصقلها، وصقلها بطلب الغفران والطلب من الله، والتوبة إليه، وفتح باب الخشية والإنابة واستمطار رحمة الله وكرمه بصالح الأعمال وحسن النيات .

فلننظر كيف بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة الكبرى، مشيرًا إلى تشخيص الداء مع وصف الدواء، بالتمثيل مع الممثَّل .. بيّن كل ذلك في كلمات معدودات في أسلوب رائع جميل .. ولا عجب !
فإنه الإعجاز النبوي .. والفضل الإلهي !!

                  (يتبع )

الهوامش :

(١) صحيح مسلم .
(٢) كتاب الصناعتين للعسكري، الفصل الأول من الباب الخامس في ذكر الإيجاز، ص : ١٧٣ .
(٣) إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين .
(٤) رواه الترمذي وصححه الألباني .
(٥) موسى سلامة كامل الدقس : دراسة أدبية لأحاديث نبوية مختارة ، ص : ٥٣ .
(٦) رواه الترمذي .
(٧) سيد قطب : قبسات من الرسول، ص ١١٥ وما بعدها .
(٨) رواه مسلم .
(٩) السيوطي : الجامع الصغير ( باب الهمزة ) .
( الأحد : ٢١ من ربيع الأول ١٤٤٧ھ = ١٤ من سبتمبر - أيلول - ٢٠٢٥م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده