محمد الرسول صلى الله عليه وسلم *المثل الأعلى للأدباء* (١)

 على مائدة العلم والأدب

محمد الرسول صلى الله عليه وسلم
      *المثل الأعلى للأدباء* (١)


محمد نعمان الدين الندوي 
 لكناؤ، الهند

لعل بعض القراء يستغرب العنوان .. ويتساءل : ما للرسول وللأدب .. ؟! 
وربما يقول في نفسه أن نسبة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم إلى الأدب مما لا يليق بمقامه الشريف ومكانته النبوية السامية .. !
فنقول لهذا الأخ الذي خطر في قلبه هذا الوهم : مهلًا .. ولا تستعجل في الحكم .. ولا تظن ظنًّا لا مبرر له . . فالرسول صلى الله عليه وسلم - نفسُه - أعلن نفسَه سيدًا للفصحاء والبلغاء .. وهل الأدب إلا الفصاحة والبلاغة، وكونُ الكلام مؤثرًا رائعًا جميلًا .. ؟ 
فلقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه : « أنا أفصح العرب بيد أني من قريش » . (١)
إي والله ! كان له - صلى الله عليه وسلم - أن يقول ذلك تحديثًا بالنعمة، وبيانًا للحقيقة، معلّلًا سبب فصاحته .
وقد اتفق أهل اللغة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانًا، وأوضحهم بيانًا، وأعذبهم نطقًا، وأعرفهم بمواقع الخطاب .
فقد بذّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بفصاحته البلغاء، وأسكت بمنطقه الشعراء، وأفحم ببيانه العرب العرباء .
فهل من نزل عليه أفضل وأجمل وأحسن وأبلغ وأفصح كلام : القرآن الكريم .. هل يمكن أن يكون - هناك - شك في كونه - صلى الله عليه وسلم - أعظمَ فصاحةً وبلاغةً وبيانًا من كافة البشر .. ؟
فقد كان - صلى الله عليه و سلم - أعظم خريجي المدرسة البيانية السماوية القرآنية، وأعربَ العرب وأفصحَهم، الذي تزخر أحاديثه الشريفة باللآلي والدرر اليتيمة التي تمثل بيت القصيد، وواسطة العقد للبيان العربي، وأغلى جوهرة على ناصية الأدب، وأجمل وأنضر زهرة في باقة الكلام .
فقد كان القرآن الكريم من أكبر العوامل التي أثرت في البلاغة النبوية والأدب النبوي، فإن أحدًا لم ينوّه بالأدب النبوي قبل الرسالة، ولكن الناس نوهوا بالخلق المحمدي الذي عرف به الرسول صلى الله عليه وسلم صبيًّا ويافعًا ورجلًا مشتغلًا بتجارة خديجة رضي الله عنها، فلم يتأثر بالقرآن أحدٌ تأثرَه صلى الله عليه و سلم، فجرى فيه القرآن مجرى الروح والدم .. فمنه استقى وتعلم، وبه تأثر وتطبع، وبخلقه تخلق، وبهديه اهتدى، و إليه رجع في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة، وإياه قرأ في صلواته ونجواته، وعليه تتلمذ، فلم يفهم القرآن الكريم حق فهمه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن القرآن الكريم « كلام رباني » يحتاج فهمه إلى شفافية الروح وسلامة القلب وصفاء الذهن، والنزاهة في السلوك، والصدق في القول والعمل، وطهارة الفكر والخيال، وسمو القصد والطلب .. وذلك كله لم يجتمع لأحد مثلما اجتمع لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فمن هنا .. كان خلقه القرآن، وكلامه أعظم كلام بلاغةً وفصاحة وأدبًا ..
ولله در الرافعي الذي قال عن الأدب النبوي والبلاغة النبوية قولًا فصلًا دقيقًا رائعًا جامعًا : " هذه البلاغة الإنسانية التي سجدت الأفكار لآيتها، وحسرت العقول دون غايتها، لم تُصنعْ وهي من الإحكام كأنها مصنوعة، ولم يُتكلًف لها وهي على السلوك بعيدة ممنوعة " .
وإن كان كلامُه صلى الله عليه وسلم لَكَمَا قال الجاحظ، وما أحسن ما قال : « هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجَلّ عن الصنعة، ونُزّه عن التكلف، استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشيّ، ورغِب عن الهجين السوقيّ، فلم ينطق عن ميراث حَكَّمَه، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة، وشُدَّ بالتأييد، ويُسِّر بالتوفيق، وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشّاه بالقبول، وجمع بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام هو مع استغنائه عن إعادته وقلة حاجة السامع إلى معاودته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يَقُم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبُذُّ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق، ولا يطلب الفَلَج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المؤاربة، ولا يهمز ولا يلمز، و لا يبطىء ولا يعجل، ولا يُسهِب ولا يحصر، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعًا، ولا أصدق لفظًا، ولا أعدل وزنًا، ولا أجمل مذهبًا، ولا أكرم مطلبًا، ولا أحسن موقعًا، ولا أسهل مخرجًا، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين عن فحواه، من كلامه صلى الله عليه وسلم » . (٢)
بعد ما وصف الجاحظ الكلام النبوي، خشي أن يظن بعض الناس أنه بالغ في الوصف، فقال : " ولعل من لم يتسع في العلم، ولم يعرف مقادير الكلام، يظن أننا تكلفنا له من الامتداح والتشريف، ومن التزيين والتجويد، ما ليس عنده ولا يبلغه قدرُه.
" وكلا . والذي حرّم التزيد عند العلماء، وقبّح التكلف عند الحكماء، وبهرج الكذابين عند الفقهاء - لا يظن هذا إلا من ضل سعيه " .
هذا . حتى وأصحابه - صلى الله عليه و سلم - كانوا يعجبون من فصاحته - صلى الله عليه وسلم - ، ويرونها طبقة في هذا اللسان، وطرازًا لا يحسنه إنسان، حتى إن أبا بكر - رضي الله عنه - قال له مرة : لقد طُفتُ في العرب، وسمعتُ فصحاءهم، فما سمعت أفصح منك؛ فمن أدّبك ( أي علّمك ) ؟ قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي . (٣)
الأدب كلمة جميلة مؤثرة تقع من قلب القارىء أو السامع أحسن موقع، ولتأثير الأدب البليغ عدّه الطنطاوي أعظم من كل شيء بعد الدين، يقول : " وهل في الدنيا بعد الدين شيء أعظم من الأدب، إنه كلام، ولكنه يجر فعالًا، ولكنه يقيمكم إن كنتم قاعدين، ويقعدكم إن كنتم قائمين، ويدفع بكم إلى الموت، ويأخذ بأيديكم إلى الحياة، وكذلك يتصرف الأدباء بالناس " . (٤) 
والأدب يبعث العزائم، ويثير الهمم، ويوقظ النائم، وينبه الغافل، ويحرك الشعوب، ويبعث فيها الحياة .
فليس الأدب إلا الكلمة الجميلة الفصيحة البليغة المؤثرة، ولقد أحب الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة، وعاشها في جميع مراحل حياته، فما نطق قط إلا بها، ولا خطب خطبة، ولا أصدر حكمًا، ولا قضى قضاء، ولا أمر ولا نهى إلا بها، واستحسنها وأشاد بها ورفع قدرها ومكانة أهلها .
نعم . لقد أشاد النبي الكريم صلى الله عليه و سلم بالكلمة الأدبية المؤثرة قائلًا : « إن من البيان لسحرًا » ، كما أشاد بالشعر الحكيم قائلًا : « إن من الشعر لحكمة » رواه البخاري، وقال عن الشعراء الذين كانوا ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، قال فيهم صلى الله عليه وسلم « هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل » ، وكان ينصب المنبر لحسان بن ثابت، ويقول له : « اهجهم - يعني قريشًا - فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام، اهجهم وروح القدس معك، والق أبا بكر يعلمك تلك الهنات » (٥) . ويسأله : « كيف أنت والمشركين معك » ؟ أي ماذا تفعل إذا تعرضت لتحد أدبي من المشركين ؟ 
فأخرج حسان لسانه متحديًا وضرب به أرنبة أنفه، وقال : لساني يا رسول الله ! والله لو وضعته على حجر لفلقه، أو على شَعْرٍ لحلقه .
  وقال - صلى الله عليه وسلم - منوهًا بشعر لبيد : أصدق كلمة قالها الشاعر : كلمة لبيد :
 ألا كل شيء ما خلا الله باطل .
ولم يكتف الرسول صلى الله عليه و سلم باستحسان الشعر والإشادة فقط، بل كافأ بعض الشعراء المدافعين عن عرض الرسول صلى الله عليه و سلم بدعائه الكريم، كما كافأ كعب بن زهير الذي مدحه - صلى الله عليه وسلم - بقصيدته، ففرح، فكساه بردته .
هذا . وقد ثبت - أيضًا - أن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يكن يعجبه الجيد من الشعر فقط، بل كان يتذوقه ويتمتع به . . . فيستزيده، كما يدل على ذلك ما يأتي :
 في صحيح مسلم عن عمرو بن الشريد قال : ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : « أتحفظ لأمية بن أبي الصلت شعرًا » ؟
قال : قلت : نعم .
قال : « أنشدني » .
فأنشدته بيتًا .
قال : « هيه » .
فأنشدته ثانيًا .
فما زال يقول : « هيه » .. حتى أنشدته مئة بيت .
وقال صلى الله عليه وسلم : « آمن شعره وكفر قلبه » (٦) ، أي أمية .

هذه القصة صفعة قوية للمتدينين الأدعياء، من أصحاب الذوق الجاف، والتدين البارد، الذين يظنون تعاطي الشعر خلافًا للتدين أو المروءة ومعارضًا لروح الدين .
فلو كان الأمر كذلك .. لما رغب أتقى الأتقياء وسيد الصالحين في سماع الشعر، ولَمَا استزاد منه . 
وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : « أعطيت جوامع الكلم » (٧) .
لقد بنى أمة .. فأحسن البناء .. أمة وُصِفت بكونها : [ خير أمة ] .. وربى جيلًا تشرب روحه، واصطبغ بصبغته، وتكيف مع سلوكه وسنته، وتكهرب بكهرباء صحبته الشريفة الإيمانية الصانعة للمعجزات، وائتسى بأسوته، وحمل همومه، وبلغ رسالته إلى كافة أنحاء الأرض . فكان خير أجيال البشر بعد الأنبياء عليهم السلام، أو - كما وصفه الرافعي - : " كانوا - أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أناسًا إن عبتهم بشيء لم تعبهم إلا أنهم دون الملائكة " . (٨) 
لقد أخرج من أمة الخمول والضعة والصحراء والتيه والتنقل بين البوادي والوديان والخيام أمة تسكن قصور كسرى وقيصر، وتحتضن العلم، وتسيح في الأرض مبلغة رسالة ربها، ورافعة راية القرآن، وتشيد منارات الهدى، وتخلد الروائع في كل فن .
يقول الزبيري قاضي اليمن وهو يمدح بلاغة المصطفى صلى الله عليه وسلم :

ما بنى جملة من اللفظ إلا
وابتنى اللفظ أمة من عفاء 

وقد شرحه الدكتور عائض القرني قائلًا :
 " ما قال كلمة إلا أحيا بها .
وما خطب خطبة إلا جهز جيشًا .
وما أرسل عبارة إلا فتح مدينة " .
والحقيقة أن الأدب النبوي صنع أمة .. لأنه كلام من لسان وراءه قلب، وراءه نور، وراءه الله جل جلاله . كما وصفه الرافعي . (٩)

* * *

*نماذج من روائع الأدب النبوي*:

والآن نقدم - فيما يلي - نماذج من البلاغة النبوية والأدب النبوي، فبالمثال يتضح المقال.

*درة يتيمة في عقد البيان النبوي*: 
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « استحيوا من الله حق الحياء، قالوا إنا لنستحيي من الله والحمد لله، قال ليس ذلك .. من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، من فعل ذلك، فقد استحيا من الله حق الحياء » . (١٠)
الحقيقة أن هذا الحديث الشريف درة يتيمة في عقد البيان النبوي الساحر، وإن القلم ليعجز عن الإحاطة بما يزدان به الحديث الشريف من بدائع المحسنات اللفظية، وروائع المعاني الغزيرة، ولطائف المضامين الشريفة في أسلوب مرصع بنغمة صوتية وموسيقى عذبة نابعة من أداء الألفاظ والكلمات، وتقارب مخارجها وتناسب حركاتها وفواصلها من غير تصنع أو إخلال بالمعنى .
يبدأ الحديث الشريف بكلمة مختصرة ذات معنى و مغزى .. يراد بها لفت الأنظار إلى خلق خاص : « حياء » ما عرفوه حق معرفته، وتحريكِ مشاعرهم إلى وعي حقيقة هامة، قد لا تنال حظها من العناية والفهم والإدراك .
« ... فليحفظ الرأس وما وعى » كلمة قليلة الألفاظ كثيرة المعاني، ينبه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة القصيرة إلى أشياء هامة، وإن التعبير بـ : « حفظ الرأس وما وعى » يعني عدة حواس وأعضاء توجد في الرأس : الأذن، واللسان، والعين، والعقل، فحياء الأذن - مثلًا - أن نحفظها من سماع أغانٍ مثيرة للغرائز والشهوات الحيوانية وغيرها مما يستقبح أو لا يجوز سماعه من الكلام، وحياءُ اللسان أن نحفظه مما يعد من تجاوزات اللسان، ونحفظه - كذلك - من الخوض في « اللامناسب » في الصفات الإلهية، أو التطاول على ذات الله عزوجل ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياءُ العين أن نحفظها من النظر إلى الحرام، وحياء العقل أن نفكر به تفكيرًا نريد به إعلاء الباطل، بدلًا من التفكير في إعلاء الحق وفي خلق السموات والأرض .
« وليحفظ البطن وما حوى » يعني - كذلك - التجنب من إشباع الجوع بالحرام .. 
إنه لا يعنينا - هنا - النظر في المعاني الشريفة التي يتضمنها الحديث الشريف، بمثلما يعنينا النظر إلى أسلوبه وصوره البلاغية الإعجازية، فالحديث الشريف كلما قرأناه، زدنا إيمانًا بسحره وتأثيره، وتمتعًا ببدائعه من مبناه ومحتواه، فلننظر إلى هذه الكلمات المتقاربة الألفاظ، المتشابهة المخارج، العذبة الأداء، المسجعة الأسلوب، ولننظر إلى الإيقاع الموسيقي الرائع، الذي ينشأ من أداء كلمات : « الرأس وما وعى والبطن وما حوى» ، ولننظر إلى هذا السجع الطبيعي الجميل : وعى - حوى - البلى - الدنيا ... ، ولننظر إلى وزن هذه الألفاظ المتقاربة الأداء : « يحفظ » الذي يساوي : « يذكر » ، و : « الآخرة » الذي يساوي : « الدنيا »  
ومما يزيد الحديث روعة على روعة، ونورًا على نور، ورونقًا على رونق كونُ السجع قد جاء طبيعيًّا سهلًا موافقًا للمعنى غيرَ زائدٍ عليه، فلا نستطيع أن نقول : إن كلمة من الكلمات أقحمت رعاية للفواصل، وتكلفًا للسجع .. بل إنما هو طبيعة واسترسال وانسياب عفوي، وتدفق ينبوع ثروة اللغة النبوية، وفيضان الفضل الإلهي البياني، الذي خص به سيد الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .

* * *

*الأدب النبوي حول المرأة* 
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة، وكان يحدو بالنساء هوادجهن :
١- « رفقًا بالقوارير » . (١١) 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد، وقد كساه قبطية، فكساها امرأته :
٢- « أخاف أن تصف حجم عظامها » (١٢) 
وقال:
٣- « إياكم وخضراء الدمن » . (١٣)
وقال :
٤- « أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها، فهي زانية » . (١٤) 
وقال : 
٥- « لعن الله الواشمات والمستوشمات المتنمصات، ومبتغيات للحسن، مغيرات خلق الله » .(١٥) 
وقال : 
٦- « الدنيا متاع، وخيرِ متاع الدنيا المرأة الصالحة » . (١٦)
وقال : 
٧- « المرأة راعية في بيت زوجها، مسؤولة عن رعيتها » . (١٧) 
وقال :
٨- « إن المرأة خلقت من ضلع، وإنك إن ترد إقامة الضلع، تكسرها فدارها تعش بها » . ( ١٨)

*أدب في غاية السمو*:

يا سبحان الله ! إنه سمو لا يتصور فوقه سمو، وأدب لا يمكن أن يصدر إلا عن لسان طاهر طيب كلسان النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد أوردتُ هذه الأحاديث الخاصة بـ : « الأدب النبوي حول المرأة » . لنكون على علم ومعرفة بهذا الأدب السامي النزيه الذي لا يحط من قدر المرأة ومكانتها، بل إنما هو أعطاها حقها من المكانة الرفيعة والشرف الإنساني بشكل لا نظير له في تاريخ البشرية، مع مراعاة جانب : « نواحيها الخاصة بها » ، ولكي لا يغرينا بالآداب الإنسانية الأخرى التي تعتبر « المرأة » آلة لهو ومتعة، فقد كانت للمرأة في الفنون منذ القديم منزلة عليا، إذ كانت الفنون تدور حول جمال هذا الكون، وكانت المرأة مجلى الجمال الأعظم، و رمزه الأقرب إلى النفوس .
إن المرأة - ذلك الجنس اللطيف الحساس، الذي لا تكتمل الإنسانية إلا به - تغطي جزءًا عظيمًا وشطرًا خطيرًا من الآداب والفنون، ومنذ القديم تُعتبر محورًا هامًّا يدور حوله الفكر الإنساني والأدب البشري في أعظم صوره وأحلى معانيه وأدق أفكاره، وهي القطب الذي تدور حوله رحى أفكار الأدباء وروائع الشعراء وقوى النوابغ الفكرية وطاقاتهم المعنوية في ذكر ما خصها الله به من خصائص لطيفة، وما أودعها من صلاحيات فطرية ساحرة من الجذب والاستمالة والفتون والجمال والرقة وما إلى ذلك .
هذا الشطر الإنساني الحساس المكمل للإنسانية، حينما يتكلم عنه رسول الإنسانية، رسول الطهر والحياء، لا يُخرج من فمه الطاهر المبارك إلا كلامًا يناسب ومقامه النبوي الشريف، كلامًا في غاية من الحياء والحيطة والأدب والرزانة والوقار .. ولم لا .. ؟ فهو الذي يأتي في شمائله وصفاته : « إنه لم ير قط عورة نسائه، وكان أكثر حياء من العذراء في خدرها، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أكثر منه إلى السماء » .
فمثل هذا النبي الطاهر الحيي لا يتكلم عن المرأة إلا بالذي مر بعض النماذج من كلامه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الثمانية المذكورة .

*رفقًا بالقوارير*:
كان أنجشة يحدو بالنساء مواكبهن، ويتغنى بالأبيات المرققة المؤثرة المثيرة، فخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤثر صوته هذا في قلوب النساء، ويقع فيها موقعًا غير لائق، فنهاه عن ذلك قائلًا : « رفقًا بالقوارير » ، ورأي آخر يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لأن الإبل إذا حدى بها حادٍ، ووقع في أذنها شعر جميل، أو أصوات القرض والرجز، اهتزت ونشطت وأسرعت في السير، فإن ذلك يؤلم النساء، ويجعلهن مضطربات لاضطراب الهودج، وهذا المعنى هو الأرجح عند شراح الحديث وأكثر كتاب العربية . (١٩) 
وشبه الرسول صلى الله عليه وسلم النساء بالزجاجات لأنه يسرع إليهن الكسر، قال الرافعي : وجه المعنى ظاهر، وكأنهن نور وصفاء ورقة، ثم سلامة قلما تسلم إلا بشدة الصيانة والحفظ والرعاية. (٢٠) 

*أخاف أن تصف حجم عظامها*:
هذه استعارة، لأن الثوب الرقيق الأبيض - كالقبطية - حينما يلصق بجسم لابسه، تتراءى الأعضاء التي خلف هذا الثوب، بجميع دقائقها وتفاصيلها ... !! بعوراتها المثيرة المهيجة للغرائز والشهوات، وزينتها الفاتنة، التي أمر الله بعدم إبدائها، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الثوب الرقيق كالواصف لما خلفه، والمخبر عما استتر به، والدال على عوراته، وذلك من إعجاز بلاغة النبي صلى الله عليه وسلم، وآيات روائعه ومبتكراته، التي لم يسبق إليها منه، وفي هذا المعنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « إياكم ولبس القباء، فإنها إن لا تشف تصف » ، هذا ما قاله الشريف الرضي .(٢١) 
ولكن هنا سر دقيق من أسرار الإعجاز النبوي البياني، ونكتة لطيفة لغوية رائعة ذكرها الرافعي : " قلنا : وهذا كلام حسن ( أي كلام الرضي ) ، ولكن في عبارة الحديث سرًّا هو من معجزات البلاغة النبوية لم يهتد إليه الشريف على أنه هو حقيقة الفن في هذه الكلمة بخاصتها، ولا نظن أن بليغًا من بلغاء العالم يتأتى لمثله، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يقل : « أخاف أن تصف حجم أعضائها » ، بل قال : « حجم عظامها » ، مع أن المراد لحم الأعضاء في حجمه وتكوينه، وذلك منتهى السمو بالأدب، إذ ذِكرُ « أعضاء » المرأة في هذا السياق، وبهذا المعرض، هو في الأدب الكامل أشبه بالروث ... ولفظة : « الأعضاء » تحت الثوب الرقيق الأييض تنبه إلى صور ذهنية كثيرة هي التي عدّها الرضي في شرحه، وهي تومئ إلى صور أخرى من ورائها، فتنزه النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك، وضرب الحجاب اللغوي على هذه المعاني السافرة ... وجاء بكلمة : « العظام » ، لأنها اللفظة الطبيعية المبرأة من كل نزعة، لا تقبل أن تلتوي ولا تثير معنى، ولا تحمل غرضًا، إذ تكون في الحيّ والميت بل هي بهذا أخص، وفي الجميل والقبيح، بل هي هنا أليق وفي الشباب والهرم، بل هي في هذا أوضح، والأعضاء لا تقوم إلا بالعظام، فالمجاز على ما نرى، والحقيقة هي ما علمت » . (٢٢) 
وفي الكلام النبوي عن المرأة ألوان جميلة في الشكل والمضمون، ولطف الكناية عن ملابسات دقيقة في غاية السمو و الأدب، غير أننا نريد الآن أن نلقي نظرة عامة على المرأة ومكانتها وصفاتها، ومحامدها ومساويها في ضوء الأحاديث التي جاءت عن « المرأة » ، غير متعرضين لعرض مزايا « الأحاديث المذكورة فيما أعلاه » الأدبية والفنية .

*إياكم وخضراء الدمن*:
الأدب النبوي لا يعطي « الجمال وحسن الشكل » في المرأة أي أهمية .. ما لم تتحل هي بالحلي الفاضلة الإنسانية، ولا يكتفي بذلك .. بل ينصح المسلم « بالبعد » من المرأة الحسناء ذات الأصل السوء، وشبهها بالروث المجتمع تسفي عليه الريح وتجوده الأمطار، فيعشب ظاهره ويروق، وفي باطنه روث .

*أيما امرأة استعطرت*: 
في الأدب النبوي كلمات عتاب وغضب على النساء التي يبدين زينتهن وجمالهن، ويعطرن أجسادهن بالعطور والبخور، أو اللاتي يغيرن خلق الله بوصل الشعر بشعر مصنوع آخر، أو ينتفن شعورهن من حواجبهن طلبًا للجمال، أو يتخلقن بأخلاق الرجال، وفي هذا المعنى هذان الحديثان :
- أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها، فهي زانية .
- لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات، مبتغيات للحسن، مغيرات خلق الله .

*الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة*:
يرى الأدب النبوي أن المرأة ليست آلة التمتع أو إشباع الغرائز البهيمية ... بل يجعلها أفضل متاع الدنيا، وأحسنه خيرًا وبركة، إذا كانت هي متحلية بالصلاح والعفاف والتقى .
من هنا .. جاء الأدب النبوي يرفع شأن المرأة ويعلي منزلتها، فجعلها راعية في بيت زوجها، أمينة لماله، حافظة للغيب بما حفظ الله، مربية لأطفالها، وإلى ذلك يشير هذا الحديث الشريف : 
المرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها .
هذا . وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث الشريفة عن : « فطرة » المرأة، التي خلقت عليها، وبأن في أخلاقها اعوجاجًا، فتنبغي مراعاة ذلك في معاشرتها :
« إن المرأة خلقت من ضلع، وإنك إن ترد إقامة الضلع تكسرها، فدارها تعش بها » . (٢٣) 
وبعد . هذا قليل من الكثير مما خرج من لسان النبوة - على صاحبه الصلاة والسلام - عن : « المرأة » في صفاتها وضعفها وتكوينها الفطري، في أهميتها، وحقوقها، ومسؤولياتها، في عاداتها وشمائلها، في أعمالها التي يحبها الله ورسوله، وفي ذلك بيان وكفاية وغناء عن المزيد، وصلى الله وبارك وسلم على من أعطى المرأة حقوقها، وأعاد إليها كرامتها، وأنقذها من العبودية وسلاسل الذل والهوان، والسلام على من اتبع منهج السنة وهدي القرآن، والله الموفق وهو المستعان .


الهوامش والمراجع :
(١) تكلم العلماء في صحة نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن أجمعوا على أن معناه صحيح .
(٢) الجاحظ : البيان والتبيين ( ٨/٢ ) طبعة القاهرة، ١٣٣٢ھ ۔
(٣) تاريخ آداب العرب للرافعي ٢/ ٢٥٠ . المكتبة العصرية، ١٤٢٦ھ - ٢٠٠٥م .
(٤) ذكريات علي الطنطاوي ٣/ ٢٤٣ ، الطبعة الثالثة ١٤٠٩ھ = ١٩٨٩م، دار المنارة، جدة 
(٥) أخرجه أحمد برقم ( ١٥١٥٨ ، ١٥١٦٣) .
(٦) أخرجه ابن عساكر في تاريخه، ( ٩/ ٢٧٢ ) .
(٧) رواه البخاري و مسلم وأحمد.
(٨) وحي القلم : ٣/ ٦ ، دار الكتاب العربي، بيروت.
(٩) أيضًا : ٩/٣ .
(١٠) رواه الترمذي .
(١١) صحيح البخاري : كتاب الآداب، باب المعاريض.
(١٢) مسند أحمد ( ٥/ ٣٠٥ ) .
(١٣) رواه الدار قطني والرامهرمزي وابن عدي، والعسكري في الأمثال.
(١٤) النسائي: كتاب الزينة .
(١٥) سنن الترمذي : أبواب الاستئذان .
(١٦) صحيح مسلم : كتاب الرضاع .
(١٧) صحيح البخاري : كتاب الرضاع .
(١٨) مسند أحمد ( ٥/ ٦) .
(١٩ انظر المثل السائر ٣/ ٦٤ .
(٢٠) الرافعي : تاريخ آداب العرب ٢/ ٣٥١ ، ( الهامش) .
(٢١) أيضًا .
(٢٢) وحي القلم ٣/ ٢٢ . 
(٢٣) روي ما يقاربه معنى في الصحيحين .

                    (يتبع)

 ( الاثنين : ٨ من رييع الأول ١٤٤٧ھ = 1من سبتمبر - أيلول - 2025م )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده