« رسالة عرفات » مرة أخرى ..
على مائدة العلم والأدب :
« رسالة عرفات » مرة أخرى ..
محمد نعمان الدين الندوي
لكنؤ، الهند
وصلني مؤخرًا العدد الأول ( جمادى الأولى ١٤٤٦ھ ) من جريدة : « رسالة عرفات » الشهرية ، التي يصدرها مركز الإمام أبي الحسن الندوي بدار عرفات ، بقرية : " تكية كلاں " ، رائے بريلي، الهند .
وللعلم .. قرية :" رائے بريلي" ليست كأي قرية من القرى .. فهي قرية صغيرة مساحةً، لا يكاد يتجاوز عدد بيوتها خمسة عشر بيتًا، ولكنّ لها فضلًا على كثير من القرى والأرياف، فقد أنجبت عددًا من الأعلام، الذين طبق صيتهم الآفاق، من طليعتهم سماحةُ الشيخ الإمام العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله الذي لا يحتاج إلى تعريف به، فهو أشهر من نار على عَلَم ..
والبيت يعرفه والحِلُّ والحرم
فلما وصلني العدد البكر من الجريدة الوليدة التي بدأت تصدر عن قرية : « أبي الحسن » أخيرًا ، فرحت جدًا .. وتفاءلت كثيرًا .. وقلت في نفسي : هذه مبادرة مباركة .. وزهرة جديدة تتفتح في واحة : « العربية » الفيحاء، أو نجم جديد يتألق في سماء « الصحافة العربية » الهندية الغراء .
ولا عجب في ذلك .. فالشيء من معدنه لا يستغرب، وصلاح الفرع من طيب الأصل ..
فالجريدة العربية هذه تصدر عن مسقط رأسِ مَن كان حجة في : « العربية » ، وأحدَ جهابذتها في العصر الحاضر، ومِن مشاهير المؤلفين فيها عبر التاريخ الإسلامي كله، ذلك الرجل الذي قال عنه الفطاحل من أبناء العربية أنفسهم : « عربي أعرب من كثير من العرب » .
فنعمت الجريدة .. جريدة : [ رسالة عرفات ] .. ونعم المكان .. ذلك المكان الذي تصدر عنه الجريدة : { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } و : « الفاضل لا يصدر منه إلا الفضل » ، و : « الثمرة لا تبعد عن الشجرة » .
وما أحوج البشرية اليوم إلى أن تعاد على مسامعها " رسالة عرفات " النبوية التي تمثلت في : " خطبة عرفات" التاريخية التي ألقاها رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم من " منبر عرفات " بمناسبة حجة الوداع ..
وخطبة عرفات هذه التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم في حجته اليتيمة أعظمُ وأُولى وثيقة تاريخية إنسانية - قررها الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا - أكدت مبدأ المساواة الإنسانية، وأرست ركائز المجتمع الإسلامي، وقواعد الإسلام، وهدمت مبادىء الجاهلية، وعظَّمت حرمات المسلمين، وهي - الخطبة - في الحقيقة نبراس تستنير بتعاليمه البشرية عامة، والمسلمون خاصة في سلمهم وحربهم، ويستلهمون منها القيم الأخلاقية وأصول المعاملة المثالية لاشتمالها على جوامع الكلم وأصول الأحكام في السياسة والاقتصاد والأسرة والأخلاق ..
فما أجمل أن تُذَكَّرَ البشريةُ كلها - اليوم مرة أخرى - بـ : « رسالة عرفات » عبر جريدة : [ رسالة عرفات ] بنفس اللغة - العربية - المباركة التي كان وجه بها الرسول صلى الله عليه وسلم توجيهاته الأخيرة العظيمة إلى الإنسانية كلها ..
فقد عادت الجاهلية بعُجَرها وبُجَرها مرة أخرى إلى الدنيا، عادت بشرورها وويلاتها، وأسقامها وعلاتها، وتمييزاتها العنصرية والعرقية واللونية، وبجميع ألوانها وبصماتها ..بل بشكل أفظع وأخطر، وأدهى وأمر .. فالعصر عصر الرقي والتطور .. فالجاهلية - أيضًا - رقيت وتطورت، فتعددت صورها، وتنوعت أشكالها، و كثرت مفاسدها، وعظمت أخطارها ..
ولا ينتشل الإنسانية من حضيض الجاهلية، إلا الإسلام .. والإسلام وحده .. بتعاليمه السامية التي تتلخص في رسالة/ خطبة عرفات النبوية التاريخية .
* * *
الصحافة في اللغة مشتقة من عمل الصحف، وفي الاصطلاح : فن إنشاء الجرائد والمجلات وكتابتها .
ولأهميتها يطلق عليها : " السلطة الرابعة" .
كما تُلَقَّب بـ : " صاحبة الجلالة" ، ومنذ قديم لُقب أهلُ العلم والقلم - عندنا - بـ : " ملوك الكلام " ، ولخطورة الصحافة وبالغ تأثيرها في عصرنا هذا .. قال عنها شوقي :
لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف
أذكر أنه كان هناك مؤتمر لكبار الصحفيين في مدينة لكناؤ، في أواسط السبعينيات، ألقى فيه سماحة الشيخ الندوي رحمه الله كلمة، وجعل محور كلمته شطرًا للبيت الفارسي :
زير قدمت هزار جان است
يخاطب الشاعر قائدًا كبيرًا، ناصحًا إياه بالأخذ بالحيطة والحذر، والتأني في القيام بمهامه، وعدم الاستعجال في تنفيذ قراراته العسكرية، فـيقول له :
تحت قدمك ألف نفس ..
وقال سماحته رحمه الله : أنا أقوم بتعديل بسيط في الشطر، وأنا أخاطب حملة القلم من رجال الصحافة والإعلام، فأقول :
زير قلمت هزار جان است
تحت قلمك ألف نفس ...
ثم أفاض رحمه الله في شرح البيت متحدثًا عن أهمية الصحافة ومسؤوليات الصحفيين الدقيقة.
الحقيقة أن الصحافة سلاح ذو حدين، ووسيلة بريئة ليست خيرًا في نفسها، ولا شرًّا في ذاتها ..
يتوقف خيرها وشرها على استعمالها، فإذا استعملت في الخير نفعت وبنت وأصلحت، وإذا استعملت في الشر ضرت وهدمت وأفسدت ..
في الماضي القريب استخدمها أبناء بلدنا من رواد التحرير، فأحسنوا استخدامها، إذ جعلوها وسيلة هامة لإثارة مشاعر الشعب ضد الإنكليز المحتلين، فكان مولانا محمد علي جوهر ومولانا أبو الكلام آزاد على رأس من أيقظوا الشعب الهندي بكتاباتهم النارية الصحفية، و نفخوا فيه روح اليقظة والحماس والمقاومة ضد الاحتلال، وبثوا الوعي الديني والوطني نحو تحرير البلاد، فكانت للصحافة - الأردية - منها - بصفة أخص - دور لا يرفض في تقوية حركة التحرير ودعمها بالكتابات المنيرة المثيرة، المحمسة للقلوب، الدافعة للهمم، المحركة للعزائم، فغلت البلاد على بكرة أبيها، وصارت شعلة من النشاط والحماس والغضب، وثارت وفارت، وقامت من أجل التحرير، ولم تقعد حتى اضطرَّت المحتلَّ إلى الانسحاب يجر أذيال الذل والهوان، ويخضع - على رغم أنفه - لقوة المقاومة، التي كان للصحافة دور عظيم في إحداثها ثم في تنشيطها ودفعها إلى الأمام إلى أن حصل الهدف، وتحررت البلاد من ربقة الاستعمار البريطاني، الذي بدأ ينكمش نفوذه من مناطق احتلاله الأخرى بعد انسحابه من الهند، فإذا قلنا إن انسحاب بريطانيا من الهند كان بداية لنهايتها، وإيذانًا بغروب شمسها، التي كان يقال عنها إنها لا تغرب في حدود بريطانيا العظمى، ما أخطأنا في قولنا .. فلما خرجت بريطانيا من الهند، أخذت شمسها تنكسف، وريحها تذهب، و نفوذها يتراجع ويتقلص ويختفي، حتى عادت بريطانيا العظمى بريطانيا الصغرى، وانحسرت في مملكتها الصغيرة { وتلك الأيام نداولها بين الناس } .
ورغم طغيان وسائل التواصل الاجتماعي و تفجر الثورة الإعلامية، لا يزال للصحافة أهميتها ودورها في الإبلاغ والتأثير، فالخبر أو المقال الذي ينشر في الجرائد والمجلات، يكون له من الأهمية والاعتبار ما لا يكون لنفس الخبر أو المقال إذا نشرا في وسائل التواصل الاجتماعي، ثم المنشور في الجرائد والمجلات أبقى أثرًا، وأطول عمرًا، وآمَن مِن الضياع، وأحفظ من الاندثار، وأبعد من التصرف والانتحال، وأحرى بالثقة والاعتبار مما تتداوله وسائل التواصل الاجتماعي من الأخبار والأحداث، وما ينشر فيها من التحليلات والدراسات وغيرها .
* * *
عفوًا على الاستطراد .. كنت أمسكت القلم لأعبر عن اغتباطي بصدور جريدة : " رسالة عرفات " ، وعما أرجو - ويرجو كثير من الإخوة الآخرين أيضًا - منها، وما يعلقون عليها من الآمال، فنرجو أن الجريدة ستتبوأ مكانة مرموقة بين الجرائد والمجلات العربية، وتكون منارة إشعاع ومنطلق توعية، تنشر النور، وتحدث الصحوة، واليقظة، والانتفاضة، وتقضي على الركود والهمود التي تعتري الساحة الصحفية العربية الهندية منذ زمان .. ولعل الجريدة تعيد إلينا عصر : " محمد الحسني " الذي كانت كتاباته تهز النفوس، وتحرك المشاعر، وتشعل جمرة الإيمان في القلوب، وتوقظ في قرائها خامد عواطفهم، وتكهرب كيانهم، وتثير فيهم الحماس الإيماني والطرب الوجداني، والتي كان الناس ينتظرونها في لهفة وشوق، وأنا منهم .. ذلك الكاتب الموهوب كان من نفس القرية التي تصدر عنها هذه الجريدة : " رسالة عرفات " ، ففيها - تكية كلاں - كان ولد وترعرع وشب الأستاذ محمد الحسني تحت تربية عمه العظيم الشيخ أبي الحسن الندوي رحمهما الله ..
فالجريدة الوليدة تضم الخير والبركة من أطرافها الأربعة .. من ناحية : « اسمها » ، ومن ناحية : « نسبتها » و من ناحية : « جهة صدورها » ، ومن ناحية : « أهدافها » ، المُعلنة على غلاف الجريدة ..
والطاقم الإداري والتحريري للجريدة، الذي يقوده فضيلة الشيخ بلال عبد الحي الحسني - رئيس ندوة العلماء - يضم رجالًا ذوي كفاءات عالية وخبرات طويلة في مجال الصحافة والإعلام، من أصحاب الطموح والهمة، المتمكنين من اللغة العربية، المؤهلين للاضطلاع بأعباء إدارة مجلة عربية عن قدرة ولباقة ونجاح ..
ومن هنا .. نبأ صدور جريدة : [ رسالة عرفات ] يمثل بشرى للمنتمين إلى الأوساط الصحفية العربية خاصة، والعلمية والدينية عامة، تفرح لها قلوبهم، ويستبشرون بها ويتفاءلون، ويرجون منها ويأملون ..
بارك الله في القائمين على الجريدة، وشد من أزرهم، وجعل الجريدة نافعة مباركة، ناطقة بلسان الأمة، معبرة عن آلام الأمة وآمالها، مهتمة بشؤونها وشجونها، رافعة صوت الحق، مرضيةً حاجة الشباب إلى ما يتعطشون إليه من التوجيه الذي يرشدهم، و النور الذي يهديهم، والروح الذي يُسَيِّرهم، والفكر الذي يفيدهم، والمقال الذي يهزهم، والعلم الذي ينفعهم، والأدب الذي يُقويهم .
والله يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى !
( الثلاثاء : ٣٠ من جمادى الأولى ١٤٤٦ھ = ٣ من ديسمبر ٢٠٢٤ م )
تعليقات
إرسال تعليق