التحديث بالنعمة

 في ظلال الإيمان والعقيدة :

التحديث بالنعمة

 
محمد نعمان الدين الندوي 
 لكناؤ، الهند 


قرأت في بعض الكتب أن رجلا جاء إلى أحد الكرماء و قال له : أنت الذي مددت إلي يد الكرم و العطف و الإحسان يوم أصبت ببعض الغِيَر (١) . . . ، فقال : أهلًا و سهلًا و مرحبًا بمن يتوسل إلينا بنا . . . ثم ما لبث أن قضى حاجته ، و حقق رجاءه. 
لما اطلعت على هذه الإجابة النبيلة الموحية الكريمة ... أفدت منها إيحاءة جعلتني أبادر بالتوجه إلى ربي ( و هو أكرم الأكرمين و أعظم المعطين ) عبر الكلمات المتواضعة التالية :

- يا أكرم الأكرمين و رب العالمين : لقد أنعمت علي بنعم لا تعد و لا تحصى { و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ، أعظمها نعمة الإيمان ...فقد هديتني- بفضلك و كرمك - لنعمة التوحيد { و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله } ، و أنقذتني من الكفر و الشرك و الضلال، فلك الحمد و الشكر يا رب على هذه النعمة الكبرى و المنة العظمى .
* و من نعمك علي - كذلك - أنك خلقتني في بيت علم و صلاح ، و نشَّأتني في مغرس كريم ، ففتحت عيني - و الحمد لله - في ظلال نور العلم و المعرفة ، و جو القرطاس و القلم ، إذ وجدت أبي - رحمه الله - (٢) لا شغل له إلا العلم و العلم فقط ، فالعلم كان شعاره و دثاره ، و زاده و شرابه، و شغله الشاغل الوحيد الحبيب إليه و العزيز عليه ، فكان معظم حديثه عن العلم و ما يتعلق به ، و الكتاب و عالَمه ، فدنياه دنيا العلم و الكتاب ، و القراءة و الكتابة ، فنشأتُ - طبعًا - على حب العلم و الأدب ، و الحرص على استقائهما من مناهلهما و البحث عنهما في مظانهما ، و كان تمام فضلك علي - بهذا الصدد - أن :
* أتحت لي الفرصة لأخذ العلم من منابعه الأصيلة المباركة.. في الرحاب الطاهرة .. تلك البقاع المقدسة التي تشرفت بآخر اتصال - مباشر - للأرض بالسماء ... مهبط الوحي .. منزل التشريع الإسلامي و عاصمة الحكم الإسلامي الأول : مثوى الرسول - صلى الله عليه و سلم - .. موئل الرسالة .. محط الأنوار و البركات : ( المدينة المنورة ) على منورها ألف ألف تحية و سلام ، في جامعتها الإسلامية المباركة ، حيث تيسر لي - هناك - نهلُ العلم ممن حملوه و أشرب في قلوبهم ، من المتخصصين الأعلام الأفذاذ، الذين كان معظمهم من أبناء أولئك العرب الذين شرفهم الله بكونهم من طليعة جنود الإسلام ، و المتلقين الأولين لعلوم الكتاب و السنة و تلاميذ مدرسة النبوة المباركة - ممن كانت الجامعة تستقطبهم من الأساتذة الفضلاء من أبناء المملكة و غيرها من البلدان العربية و الإسلامية و الصديقة.
فبفضل الدراسة في الجامعة الإسلامية سعدت بالإقامة في المدينة النبوية و أداء الصلوات في الحرم النبوي ، و الصلاة و السلام على صاحبه الاكرم ، و حضور حلقاته العلمية و . . . و . . . لمدة استمرت نحو أربع سنوات.
إنها ذكريات مضمخة بالطيب ،و فترة تاريخية - يفوح منها العطر - من حياتنا نحن طلاب الندوة المبتعثين إلى الجامعة الإسلامية .
يا سقى الله تلك الأيام ... أيام الدراسة - في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - بنفحاتها و نسائمها و رحماتها وخيراتها، و ربيعها و خيرها . 
كل ذلك من عظيم نعمك علي يا رب.. فلك الحمد و الشكر . 
كانت نعمك علي تترى . . . و آلاؤك جسيمة متصلة لا تنقطع سلسلتها منذ أن بدأت أعي و أشعر . . . فمن تلك النعم الجليلة :
* أنك شرفتني بحج بيتك العتيق مرات . .، أما العمرة فمرات و كرات ..فضلًا منك و كرمًا..لا استحقاقًا مني لها ..
و إن أنس فلم و لا و لن أنسى ذلك اليوم الأغر الأبلج الأعظم سعادة و بركة - من حياتي - الذي شرفتني فيه بالحضور إلى داخل بيتك المعظم برفقة عدد من عبادك الصالحين ، منهم عبدك التقي أبو الحسن علي - هكذا نحسبه و انت حسيبه، و لا نزكي عليك أحدا - ... الأمر الذي اعتبره تتويجًا لسعادتي ، و غرة عزتي ، و واسطة عقد حياتي ، و بيت القصيد من سلسلة أفضالك و إنعاماتك علي .
فهل هناك شرف أعظم و أسمى من أن يسعد المسلم بدخول أول و أطهر بيت وضع للناس .
و لعمري إنها لنعمة - نعمة دخول الكعبة - لم أحلم بها قط ، و ما كان لي أن اتشرف بها لو لا أنك أسعدتني بها ..
و يومها - يوم الكعبة- وفقتني لأن أسألك . . . فسألتك فيها ما سألت .. و انت أعلم بما سألت . . . و أكرمتني بالاستجابة لأحب ما سألتك و دعوتك من أدعيتي تلك . . . التي وفقت فيها لرفعها إليك .. فلك الحمد و الشكر يا رب .
* و من نعمك علي - كذلك - أنك أوزعتني حب اللغة العربية التي اخترتَها فجعلتها لغة قرآنك و نبيك ، فوفقتني للعكوف على دراستها و بذل أقصى الجهود في تعلمها ، ثم لخدمتها عبر التدريس و الكتابة و التأليف قدر المستطاع ...، الأمر الذي اعتبره مفخرتي ، و رأس مال حياتي ، فلك الحمد و الشكر يا رب على هذا التوفيق . 
* جُبلتُ على حب الخلوة و إيثار العزلة على المخالطة، و أعتبر ذلك - أيضا - من النعم، فالخلوة و الاحتراز - بقدر الإمكان - من المزاورة و المشاركة - غير الضرورية - في الحفلات و المناسبات و الولائم الأسرية ... سبب لي فوائد جمة ، من أعظمها أنها- العزلة - تعين في تحصيل ما يجمع معظم الهم ...، و بالتالي تُيَسِّر لشغل الوقت بالنافع من الأمور . . و على رأسها القراءة و الكتابة ، و إراحة القلب مما يكدر الطبع و يعكر الصفاء و يشوش الذهن ، و عدم ضياع الوقت فيما لا يعود بخير . 
ففي الجملة أستطيع أن أقول- تحديثًا بالنعمة { و أما بنعمة ربك فحدث } - أنك جعلتني من المجدودين المحظوظين ... ، حيث حققت معظم آمالي و طموحاتي التي تاقت إليها نفسي ، و جعلت كثيرا من أحلام يقظتي واقعًا و حقيقة أعيشها ، و وفرت لي عيش الأمان و حياة السعادة .
فيا من أحسنت إلي ... و أعطيتني كثيرًا من نعمك قبل أن أطلبها...تفضل علي بالذي أطلبه منك . . .
فبنعمك السالفة الذكر- و غيرها مما لا يأتي عليه الحصر- أتوسل إليك . . . أن :
تحسن عاقبتي كما أحسنت دنياي ..
و تسعدني في آخرتي كما أسعدتني في الأولى، وتنقذني من النار : { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } 

الهوامش :
(١) الغير - بكسر الغين وفتح الياء - حوادث الدهر ومصائبه .
(٢) هو الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي رحمه الله ، أحد أعلام العلماء في الهند، ورئيس قسم التفسير بندوة العلماء سابقًا، درّس فيها أمهات كتب التفسير والحديث والفقه نصف قرن كاملًا، توفي في ٢٠٢٠م .

( الجمعة : ٣ من جمادى الثانية ١٤٤٦ھ = ٦ من ديسمبر ٢٠٢٤م )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده