وصفة سحرية من طب الوحي

 على مائدة العلم والأدب

وصفة سحرية من طب الوحي


محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند


إذا أردت أن تعيش سعيداً مرتاحاً، هادئ البال، غير مجني عليك، آمناً من أذى الناس، فعليك بوصفة سحرية مضمونة التأثير والشفاء، لا يمكن أن يتخلف أو يتأخر - فضلاً عن أن ينعدم أو ينتفي - مفعولها . . لأن هذه الوصفة، عليها دمغةُ : " الماركة " المباركة المسجلة من شركة: "طب الوحي " القرآنية المحمدية - إذا لم يكن سوء أدب في هذا التعبير ! -

إن هذه الوصفة تعد من عقاقير روحية، تسمى : " العفو " ، أو : " الصفح " ، أو : " كظم الغيظ "، أو " التسامح " ، أو : " غض النظر " وما إلى ذلك من مركبات الوصفة !

ولا جَرَم أن هذه الوصفة القيمة دواء ناجع لطباب ٩٩% من الأمراض الخلقية من الثأرات والعداوات والإحن، ومظاهر الشر والفساد، وإفرازات الشحناء والبغضاء.

فيوم يدرك الناس أهمية هذه الوصفة، ويعملون بها بدقة، يسودهم جو من الحب والوئام، ويأمنون شر النزاع والخصام، ويرفرف على العالم حمام السلام، وتعود الحياة أجمل ما تكون !

فالعفو إكسير لسم الحقد والضغينة، وأنجع دواء لداء العداء والشحناء، ومغناطيس طبيعي يجذب قلوب أعدى الأعداء، ويجعل أرواحهم تتصافح ونفوسهم تتصافى، وعصا سحرية تطوع أقسى القلوب وتُليّن أعتاها ، وسلاح ماضٍ يهزم أكبر الجبابرة، ويصرع أطغى الطغاة، ويُخضعهم عفويا وطواعية وحبا، لا قهرا وكرها وعنوة، ويحبب صاحبه إلى أبغض المبغضين الحاقدين الموتورين، وطوبى لمن حببه الله إلى خلقه، ويجعله محترما لديهم، متربعا على عرش قلوبهم.

من سالم الناس يسلم من غوائلهم
و نام وهْو قرير العين جذلان

وبما أن ديننا : " الإسلام " دينُ الرحمة والعدل والحب والسلام، فإنه كثيراً ما يحث على العفو وكظم الغيظ : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ } ( الشورى : ٤٠) « صل من قطعك ، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك».
ومعلوم أن المشروع المحمدي كان عنوانه البارز الدائم { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : ۱۰۷ ) ، ورسول الإسلام نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لُقب بـ : "رسول الرحمة" ، وما حياته المباركة كلها إلا عبارة عن : "الرحمة" و"العدل" و "البر" و "التأليف و "العفو عن الأعداء " ، ومعاملتهم بالحسنى .

ثم العفو الحقيقي لا يكون إلا عن قوة وقدرة، فلما دخل صلى الله عليه وسلم مكة ظافراً فاتحاً ، لم يحاكم أساطين الحرب وألد الأعداء، ولم يقم لهم محاكم التفتيش، ولا نصب لهم المشانق، وكان قادراً على الاقتصاص منهم فرداً فرداً ، وعلى أن يرد الصاع بالصاعين، ولكنه كان أرسل رحمة للعالمين، فعفا عنهم عفو القادر على الثأر، وقال لهم : « اذهبوا فأنتم الطلقاء لوجه الله تعالى » . وما سئل عليه السلام في رحمة ولا عدل ولا إحسان إلا بادر إليه ، وقد تابعه صحابته في ذلك، فقدموا للحضارة الإنسانية النموذج الأعلى في الإنسانية والتواضع في لحظات المجد والقوة.

ولننظر كذلك ماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم يوم عامله أهل الطائف أسوأ معاملة وأقبحها، فاستقبلوه بالحجارة والاستهزاء، فلم يدع عليهم، ولو دعا عليهم لهلكوا عن آخرهم، وأصبحوا كأن لم يغنوا بالأمس، وصاروا أثرا بعد عين، وحديثاً يتلى على اللسان، بل عفا عنهم ، وتدفق لسانه - صلى الله عليه وسلم - بعبارات الشكوى وصادق النجوى قائلاً :
« اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت أرحم الراحمين، ورب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى قريب يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك » .

* * *

ثم إن الرجل الذي يغض النظر عن أخطاء الناس، ويعفو عن زلاتهم، يعيش في ظلال السعادة القلبية، والأمن الداخلي، والاستقرار النفسي إضافة إلى كونه مستحقاً لأجر الله وثوابه { ورضوان من الله أكبر} .

هل سمعت أو قرأت أن رجلاً فظاً غليظ القلب، شرساً حقوداً حاداً، مقْفَراً في عالم المثل ، كسب احترام الناس وحبهم ...؟!
!!...كلا

يقول شكسبير: " لا توقد الفرن كثيراً لعدوك، لئلا تحرق به نفسك".

فقل للعيون الرمد : للشمس أعين
تراها بحق في مغيب و مطلع
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها
بأهوائها لا تستفيق و لا تعي
بل إن الرجل الهيّن اللين السمح الكريم العطوف هو الذي يحظى بحب الناس وإجلالهم.

انظر ماذا قال الله تعالى لرسوله الأحب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم : ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (آل عمران : ١٥٩) .

فلو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نفسه، المرسل من الله، المؤيد منه ، صاحبَ خلقٍ غير جميل، لابتعد الناس عنه !

فما لك بغيره من الناس يا ترى ؟!

فالعافون عن الناس، المتسامحون الحلماء النبلاء، الذين لا يحملون الحقد والضغينة، هم المحبوبون عند الله وعند الناس، وهم المكرمون الموقرون، المحظيون بجائزة الحب، ووسام التقدير، ونعمة الثناء على ألسنة الخلق (وألسنة الخلق أقلام الحق ) وعظيم الأجر من الله ، وهم كرام الناس.. كما قال الشاعر العربي الكريم :

و لا أحمل الحقد القديم عليهم
وليس كريم القوم من يحمل الحقدا

فالعفو .. العفو... أيها الناس !

فإننا إذا عفونا نلنا شرف الدنيا وعز الآخرة :
{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إنه لا يحب الظالمين } (الشورى : ٤٠ )

* * *

بينما الرجل الحاقد الثائر، والإنسان العدواني المشاكس صاحب النزعة الانتقامية المشينة، الذي يعيش على الكراهية، ويتغذى ببغض الناس، ولا يرتاح إلا مع الخصام، ويتتبع زلات الناس، ويتصيد مثالبهم، ويفرح بعثراتهم، ويتلذذ بكشف عوراتهم، وفضح سوءاتهم ويتفرغ ليحصي على أغلاطهم ، فهو كالذباب لا يقع إلا على الجرح والنجاسة، ولا يعترف لهم بحسنة، ويشطب كل فضيلة، ويعمى عن كل محمدة، ويختلق كل يوم مشكلة ، ليجرّع بها من حوله الغصص، ويبحث - دائماً - عن ضحية . . . وينظر إلى الناس بالنظارة السوداء :

و الذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً

إن مثل هذا الرجل يعيش - في مجتمعه - مكروهًا ملعونًا ، ثقيل الظل، يتحاماه الناس، ويتحاشون مجالسته ومصاحبته، هذا من الخارج !
أما من الداخل ... فهو يعيش انهياراً نفسيا، محطماً محروماً، مُشرّد الفكر ممزق القلب، قانطا يائساً ، مصاباً بالتشاؤم والإحباط ، مذعوراً مهموماً :

من راقب الناس مات هما
و فاز باللذة الجسور

هذا عاجل عقابه { ولنديقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ( السجدة : ٢١).

أيها الناس ! هل أعطانا الله هذه الحياة الجميلة القصيرة لنعكر صفاءها ونفسد جمالها بالتنافر والتشاحن والتعادي ؟!
أو لنقضيها - قدر المستطاع - متحابين متصافين، متآخين، متعاونين متضامنين، نزينها بأزهار الحب والمودة، ونجملها بأوراد العفو والتسامح متمتعين بما أودعها الله من مظاهر طبيعية فاتنة ، ونستعد - متزودين بزاد التقوى - للحياة الآتية الأصيلة، ونغض الطرف ونتغافل ونتغابى . . كما قال أبو تمام :

ليس الغبي بسيد في قومه
لكن سيد قومه المتغابي

وكما قال أحمد بن حنبل رحمه الله : التغافل تسعة أعشار حسن الخلق .
فقاتل الله الشر، وسحقاً لمن ينشره أو يشجعه، وبعداً لمن يظلم أو يتعاون عليه، وتبا لمن يفرش الشوك والقتاد في طريق الناس، والخيبة والندامة للمصرين على العدوان.

وسلام على من عفا وصفح، وائتسى بأسوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وباقات ورد لمن سار سيرة المسالمين المسامحين.

وحيا الله الكاظمين الغيظ والمحسنين.
وتحياتنا ودعواتنا لأصحاب العفو والمسامحة والإحسان، والله يحب المحسنين !
والحمد لله رب العالمين.

( ليلة السبت : غرة رجب ١٤٤٥ھ - ١٢ يناير ٢٠٢٤م )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده