شاعر الإسلام : محمد إقبال

 شخصيات أعجبتني ( ٢١ )

شاعر الإسلام : محمد إقبال


محمد نعمان الدين الندوي

لكناؤ، الهند


أمتنا الإسلامية أمة العلم والبيان، فقرآنها أعظم معجزة علمية بيانية، خُص بها نبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام، أبلغُ وأفصحُ من نطق من الإنس والجان .

فمن هنا .. كان العلم و البيان طابعَ الأمة، وسمتَها الأبرز  - أو من أبرز سماتها - وهويتَها وهواها، وتاجَ عزها، وغرةَ جبينها،  وبالعلم كان بدأُ وحيِ نبيِّها، وبه كان تميزُها وعلوُ قدرِها .

ومن ثم .. ما زالت  الأمة - في جميع عصورها - غنية بأعداد لا تحصى من أساطين العلوم وفحول الشعراء وأمراء البيان ما يندر نظيره في أي أمة من الأمم .

والعصر الأخير - أيضا - لم يخل من العباقرة والنوابغ في مختلف العلوم والفنون وأنواع المعارف .

وكان صاحبنا الشاعر محمد إقبال أحدَ نوادر الزمان بحق، بل كان أحد أفذاذ التاريخ الإسلامي العام بدون خوف اعتراض معترض  أو نقد ناقد . .

بعض خصائص شعر إقبال

محمد إقبال رجل اجتمعت فيه عدة شخصيات .. فكان شاعرا فحلا، وأديبا أريبا، ومتقنا لعدة لغات، وأستاذا جامعيا، وفيلسوفا معروفا، ومحاميا ناجحا، ومفكرا كببرا .. 

ولكن لا يهمنا الآن إلا إقبال شاعرا ..

أما [ إقبال شاعرا ]  .. فحدث عن البحر ولا حرج ..

والبيت يعرفه والحل والحرم ..

إقبال كان خُلِق شاعرا .. ، فكان ميسرا لما خلق له .. 

ثم الحديث عن " إقبال شاعرا " في هذا المقال الصغير ليس بسهل .. ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله .. فنحاول أن نلقي ضوءا على بعض خصائص شعر إقبال ..


إذا وصفنا شعر إقبال بـ " الإبداع" أو :" الروعة " وما إلى ذلك من كلمات الإعجاب والإشادة .. ، لمَا أنصفنا .. لا  الشاعر .. ولا شعره .. ،  وما أعطيناهما حقهما من الإنصاف والاعتراف ..

الحقيقة ان شعر إقبال أسمى وأعلى من ذلك بكثير وكثير .. 

ولعل  أجدر وأحق ما ينبغي أن يوصف به - عندي - شعرُ [ إقبال ] .. ، هو أنه " شعر الإلهام  " ..  أو " شعر القرآن " (١) أو شعر الإيمان .. 

شعرٌ إذا سمعه السامع، وفهمه حق الفهم، اهتز له وِجدانه، وطرب كيانه، وكأن مسًّا كهربائيًّا هز وجوده هزًّا لذيذًا ممتعًا ..

هناك بعض الثمار لا يمكن وصف ما فيها - من اللذة والحلاوة والروعة والجودة والتميز والتفرد - حق الوصف مهما كان بليغا .. مثل : " الأنبج  ( mango ) الثمرة الهندية المعروفة التي تسمى :" ملك الثمار " ، فحلاوة هذه الثمرة ولذتها لا تُعَبَّران بالكلمات، وأقصى ما يستطيع أن يقول آكلها : والله لذيذة جدا .. و رائعة جدا .. 

أما لذة " الأنبج " الحقيقية .. فلا يشعر بها ولا يستمتع بها إلا من أكلها .. وهذا الأكل - ولو مرة واحدة - يغني عن ألف وصف للثمرة ..

هكذا شعر إقبال .. لا يتذوق روعتَه ولا يشعر بسحره، ولايؤخذ بجماله، ولا يصل إلى خصائصه وأسراره إلا من يقرأه بلغته التي قيل فيها، ولا يكفي مجرد القراءة .. بل يفهم  القارىء الشعر حق الفهم، وكلما زاد القارىء فهما للشعر زاد تذوقا به، وشَدَهًا بجماله وجلاله وروائعه وبدائعه .

حقًّا .. إن شعر إقبال لشعر عظيم، عظيم شأنه، قوي تأثيره، ملموس سحره، رائع بيانه، بليغٌ نفوذه، باهر لفظه، عميقٌ معناه، دقيق مغزاه .

فالذين قرؤوا كلام الشاعر إقبال، وأدركوا معناه، ووصلوا إلى أعماقه، وتمتعوا بحبكه ونسجه، لا يسعهم إلا تصديق ما نقول ..

إن فهم أبيات إقبال ليس من السهولة بمكان .. فإقبال كثيرا ما يرمز رمزًا ..  ويُلٍْمٍح إلماحا  ..  وقليلا ما يصرح تصريحا .. ويبسط بسطًا ..

على أن  إشارات إقبال ورموزه وتلميحاته لا تكون غامضة، تستعصي على الفهم .. بل تكون رائعة ممتعة،  تلذ أصحاب الذوق الأدبي والشعري بصفة خاصة .. فسر متعة شعره وروعته في إشاراته ورموزه وكناياته .. ولا تنقصه - مع الإيجاز والإشارات ودقة التركيب البياني - الجزالةُ والنصاعة والوضوح ..

وهناك ميزة أخرى هامة لشعر إقبال، وهي : أنني لم أقرأ شاعرًا  - في العربية أو الأردية - أوتي  حظا من الحب للإسلام ورسوله،  والعاطفة والوجدان، والتحرق والتوجع لمصائب المسلمين،  مثل ما أوتي منه شاعرنا إقبال .. إلا نادرا جدا ..

  وكذلك لا أعرف شاعرا من شعراء العربية والأردية - ممن اطلعت على كلامهم - سخّر موهبته الشعرية لخدمة الإسلام وتذكير المسلمين برسالتهم، والتغني بعظمة المسلمين السالفة، كما سخر إقبال موهبته الشعرية لذلك ..  

إنه بث - بشعره - في الشعوب الإسلامية روحا إسلامية،ونفخ في قلوبها أنفاسا إلهية، واستنهض هممها، وأيقظ مواتها، وحرك ركودها،  ووُفّق في تشخيص عللها، و وصف علاجها .

إقبال شامة بين الشعراء

لقد كثر الشعراء في كل زمان و مكان، ونبغ غير قليل منهم، ولكن لإقبال منهم شأن فريد قلما حظي به الشعراء الآخرون .

كأن الله كان قيضه للاضطلاع بعبء رسالة جليلة، وللقيام بمهمة عظيمة، فأحسن تبليغ الرسالة والقيام بالمهمة .

من يتدبر في قوة شاعرية إقبال، ودقتها فيما تتأتى له، ومجيئها بالمعاني المبتكرة، والتعبيرات الفريدة، لا يسعه إلا أن يقول : إنه شعر لم يمر به نظيره قط، ولا قرأ مثله قط ندرةَ أسلوب و قوةَ تأثير وروعةَ لفظ ودقةَ معنى وسحرَ صنعة ..

وكأنه شعر أعلى وأسمى من الشعر ..

و أندر وأروع و أشهى و أحلى وأبدع لفظا ومعنى ..

قال الرافعي عن شوقي : " وفي الشوقيات صفحات تغرد تغريدا، و فيها صفحات تنق نقيقا " . (٢) 

ولكن نستطيع أن نقول - على وجه الثقة - أن الإقباليات تكاد كلها تغرد تغريدا، وتسمو سموا، وتتميز سنى وسناء، وأثرا وخلودا ..

وما كان لإقبال أن يحظى بهذه الميزة، ويسمو هذا السمو إلا لكونه - إلى تخصصه في الدراسات الإسلامية والعلوم العصرية - خريج : " مدرسة القرآن " ، التي كانت وراء كل ما تميز به شعر إقبال من الندرة والتميز والخلود .

القرآن وإقبال

نعم . كان القرآن الكريم منبع شعر إقبال وأولى مكونات شخصيته، وأعظم مصادر فكره وشعره، فمنه استمد واقتبس،  وكان المصدر الرئيسي لتفجير قريحته، والسبب الأول لتخليد شعره، وكانت صلته بالقرآن الكريم صلة مبكرة، فقد كانت بدأت منذ نشأته، وكان والده رحمه الله أول من استلفت نظره إلى التدبر في القرآن الكريم والغوص في أعماق بحره، يقول :

" أشد ما أثر في حياتي نصيحة سمعتها من أبي : « يا بني إقرأ القرآن كأنما نزل عليك أنت » .

ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن، وأقبل عليه، فكان من أنواره ما اقتبست، ومن درره ما انتظمت "  .

فكان لهذه النصيحة الأبوية الغالية أثرها في قلب الابن، فالتزمها وتمسك بها، وجعلها نصب عينيه، فجعل التدبر والتفكر والنظر في كتاب الله مقصد حياته، فالتقط منه اللآلي والدرر ما شاء الله أن يلتقط، وبه - القرآن الكريم - كان ندرة معاني شعره، ، وقوة تأثيره، وبالغ نفوذه، وسحره وخلوده، وبقاؤه واستمرارُه استمرارَ الحياة .

ولما قدم إليه ملك أفغانستان نادر خان : المصحف الشريف، قال :

" إن هذا القرآن سند أهل الحق، في ضميره حياة وروح، تندرج في بدايته النهاية، به فتح عليّ باب خيبر " .

إقبال شاعر الرسالة

لقد أصاب أحمد حسن الزيات حينما وصف إقبال بـ : " شاعر الرسالة " ، فقد كان أعطي إقبال من حب النبي صلى الله عليه وسلم حظًا قَلَّما يعطاه إلا  خاصة عباد الله ممن يحبهم ويريد بهم خيرا ..

لقد بلغ من حبه للرسول صلى الله عليه وسلم ومراعاة الأدب معه، أنه لما ناهز الستين من عمره، بدأ ينتابه الخوف من أنه ربما يزيد عمرُه أكثر من عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يعتبر ذلك إساءة أدب إليه صلى الله عليه وسلم، فكان يتمنى ويدعو ان يتوفاه الله قبل سن حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فاستجاب الله دعاءه، فتوفي قبل أن يصل إلى سنه صلى الله عليه وسلم .

ومسألة العمر ليست بيد الإنسان .. ولا دخل له فيها مطلقا .. فالأعمار بيد الله .. ولكن للحب عجائب و غرائب ..

الحقيقة أن الحب النبوي كان جرى من  إقبال مجرى الروح والدم، حتى أنه كانت تستعبر عيناه لدى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر مدينته : طيبة الطيبة، وقد فاض هذا الحب الشريف على قلمه أبيات تسيل حبا ورقة، منها : 

" أنت غني عن العالمين، وأنا عبدك الفقير، فاقبل معذرتي يوم الحشر، وإن كان لا بد من حسابي، فأرجوك يارب ! أن تحاسبني بنجوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فإني أستحي أن أنتسب إليه وأكون في أمته، واقترف هذه الذنوب والمعاصي " .

ويقول في بيت آخر :

" إن قلب المسلم عامر بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو أصل شرفنا، ومصدر فخرنا في هذا العالم ، بأبي هو وأمي، لم تلد مثله أم، ولم تنجب مثله الإنسانية " .

الاعتداد بالنفس (خودي )

من المصطلحات الشهيرة لإقبال : « خودي » : ( الذاتية ) .

وهذا المصطلحُ يعني - عند إقبال - الاعتدادَ بقيمة النفس، والحرصَ على الحفاظ على كرامتها، وصيانتَها من الذل والضعف والشعورِ بالدونيّة، ومن كل ما يحط من مكانتها ويخالف قدرها، ودعمَ الإنسان المسلمِ شخصيتَه بصفات الرجولة والإباء، وعزة النفس، والطموح والعزيمة، وتحليتها بجميع الشمائل المحمودة، يقول :

 " انزل في أعماق قلبك، وادخل في قرارة شخصيتك، حتى تكتشف سر الحياة، ما عليك إذا لم تنصفني وتعرفني، لكن أنصف نفسك يا هذا ! واعرفها، وكن لها وفيا " .

إن معرفة النفس هذه  جعلت إقبال عزيزا جريئا، صريحا غاية الصراحة،  أبيا كل الإباء، مرفوع الهامة شامخ الكرامة،  لا يعرف الطمع أو الخضوع إليه سبيلا، يقول :

" يا صاح ! إن الموت أفضل من رزق يقص قوادمي، ويمنعني من حرية الطيران " .

من هنا .. فقد سهل على إقبال التضحية بأكبر منصب وأعلى مرتبة إذا كان ذلك على حساب عزة النفس، ويؤدي إلى ثلم المروءة وخدش الكرامة، فالحر الأبي الكريم يفضل الموت في عزة على الحياة بذلة :


لا  تسقني  ماء   الحياة    بذلة

بل فاسقني بالعز كأس الحنظل


هذا . وقد أثبت المسلمون - فعلا - أنهم أمة الإباء والكرامة، وأنهم أمة التضحية بأعز عزيز وأغلى غال في سبيل الحفاظ على الكرامة والمروءة وعزة النفس، فلقد سجل تاريخنا المجيد في صفحاته الغر من قصص وأمثلة الإباء للضيم وعزة النفس للسلف ما لا تكاد تصدقه العقول، فقد ذكرت الكتب أن الإمام الشافعي رحمه الله كان يرفض الماء البارد، ويفضل العطش على الري، إذا كان ذلك على حساب مروءته وكرامته، يقول :

" لو علمت أن شرب الماء البارد يثلم مروءتي، ما شربته " .

وقال للرجل الذي سأله أن يوصيه : " إن الله خلقك حرا، فكن حرا كما خلقك " ..

وهذا الإمام علي كرم الله وجهه يدعو المسلم إلى أن لا يُخضع رقبته لأحد أيا كان .. و إلى أن يعتز - دائما - بالحرية التي أكرمه الله بها، فيقول : " لا تكن عبد غيرك ، وقد جعلك الله حرا " .

نماذج من غَيرة إقبال

مما يدل على غيرة إقبال العظيمة واعتزازه بدينه وشعوره البالغ بعزة النفس، أنه لما سألته حكومة فرنسا أن يزور مستعمراتها في شمال إفريقية،  رفض دعوتها، وأبى - كذلك - أن يزور جامع باريس، وقال : إن هذا ثمن بخس لتدمير دمشق وإحراقها .


كما يحلو لي - أيضا - أن أقدم نموذجا آخر لهذا الشاعر الإسلامي الغيور على عزة النفس، الحريص على مراعاة الآداب والقيم الإسلامية، فما تهافت على العرض الجاذب، والمنصب الكبير الذي قدم إليه، وما ساوم على عرضه وكرامته، ودينه وشرفه، بل رفض قبول المنصب لما رأى في ذلك مساسا بعزته وكرامة نفسه، وانتهاكا لحرمة الالتزامات الثابتة بنصوص الكتاب والسنة، وتفصيل ذلك أن الحكومة البريطانية عرضت عليه منصب نائب الملك ( viceroy )لأفريقيا الجنوبية، وكان من تقاليد هذه الوظيفة أن حرم نائب الملك تكون سافرة، تستقبل الضيوف في الولائم الرسمية، وتكون مع زوجها في الحفلات، فأشير عليه بذلك، فرفض قبول المنصب، وقال : " ما دام هذا شرطا لقبول المنصب، فلا أقبله، لأنه إهانة ديني، ومسامة كرامتي "  .

وكذلك قدم  رئيسُ دولة إلى إقبال بمناسبة عيد ميلاده هدية محترمة من النقود، فرفضها قائلا : " إن كرامة الفقير تأبى علي أن أقبل صدقة الأغنياء " . ( روائع إقبال للشيخ الندوي )

ولعلي لا اخرج من الموضوع إذا ذكرت هنا قصة مماثلة لشاعر عظيم يكاد يضارع  شاعرنا في العظمة والشهرة، وهو أبو الطيب المتنبي ، فقصته - هي الأخرى - تدل على عزة النفس والإباء، ذكرها الرافعي في: وحي القلم ، يقول : 

" ... ولقد والله  كان هذا المتنبي كأنه يوزع الشرف على الملوك والرؤساء؛ وهل أدل على ذلك من أن أبا إسحاق الصابي شيخ الكتاب في عصره يراسله أن يمدحه بقصيدتين، ويعطيه خمسة آلاف درهم، فيرسل إليه المتنبي : ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولكني إن مدحتك، تنكر لك الوزير ( يعني المهلبي ) لأني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذا الحال، فأنا أجيبك ولا أريد منك مالًا ولا من شعري عوضًا، فأين في دهرنا من تُشعره عزة الأدب مثل هذا الشعور ليأتي بالشعر من نفس مستيقنة أن الدنيا في انتظار كلمتها " . (٣) 

إقبال والحضارة الغربية

درس إقبال العلوم الغربية في مهدها، وتخصص فيها كأحد أبنائها البارزين، وعاش - مدة من الزمن - في قلب الحضارة الغربية، وتقلب في عواصمها ومراكزها، وخالط شعوبها، وقابل جهابذتها ودهاقينها، وقضى عدة سنوات وسط أوحالها وأوساخها، وجنونها وفنونها، وفجورها وسفورها، وعُريها وعارها، وفتنتها وسحرها السامريّ، ولكنه لم ينخدع به، ولم تستطع المفاتن الغربية أن تؤثر على سلوكه أو عاداته، أو تمس معتقداته أو تنال من موروثاته شيئا ما .. بل خرج من تلك البيئة الموبوءة  أصفى وأطهر ما يكون . . وأعظم إيمانا بحقانية الإسلام، وأشد بغضا وإنكارا للحضارة الغربية، فلم ينبهر بزخرفها، ولم يُعْشِها بريقُها، بل ظهر أكبر ثائر عليها، وأعظم ناقد لها .. ، ويُرجع إقبالُ الفضلَ في تماسكه ضد الإغراءات الغربية، وفي عدم انبهاره بالبريق الغربي إلى صلته بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكونِه معتزا بحبه - صلى الله عليه وسلم - حبا منعه من أي حب وصلة وانتماء وانبهار أو إغراء أو مخادعة، يقول :

 "مكثت في أتون التعليم الغربي، وخرجت كما خرج إبراهيم من نار نمرود " ويقول :

" لم يزل فراعنة العصر، يرصدونني، ويكمنون لي، ولكني لا أخافهم، فإني أحمل اليد البيضاء، إن الرجل إذا رزق الحب الصادق، عرف نفسه، واحتفظ بكرامته، واستغنى عن الملوك والسلاطين، لا تعجبوا إذا اقتنصت النجوم، وانقادت لي الصعاب، فإني من عبيد ذلك السيد العظيم، الذي تشرفت بوطأته الحصباءُ، فصارت أعلى قدرا من النجوم، وجرى في إثرها الغبارُ، فصار أعبق من العبير " . 


وكان إقبال ينعى على أولئك الذين ليس لهم حظ من حب النبي صلى الله عليه وسلم، وينظرون إلى أوروبا نظرة تقدير وانبهار، ويتبرأ إقبال منهم، فيقول :

" أنا بريء من أولئك الذين يحجون إلى أوروبا، ويشدون إليها الرحال مرة بعد مرة، ولا يتصلون بك أبدا في حياتهم، ولا يعرفونك " . 

وكان إقبال يحذر أهل الغرب متنبئا بأن حضارتهم سيكون زوالها بيد نفسها، يقول :

" ستقتل حضارتكم نفسها بخنجرها، لا يثبت العش على غصن رطيب ضعيف مضطرب " .


إقبال والمرأة

قال بعض الأدباء : " المرأة للشاعر كحواء آدم، هي وحدها التي تعطيه بحبها عالما جديدا لم يكن فيه ". 

إذا كان هذا القول يصدق على معظم  الشعراء .. ،، ولكن هذا القول لا مصداقية له بالنسبة لإقبال بأي شكل من الاشكال . . ، فلم يكن - فيما أعلم - للمرأة - غراما  أو غزلا أو تشبيبا - حظ من شعره، إنه كان نمطا فريدا من الشعراء ، فلم يكن شاعر الهوى أو الشباب والغرام، وإنما كان شاعر الرسالة والإسلام . . شاعر الطهر والعفاف . . 

وإذا كان تكلم عن الحب .. فحب الإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام .. 

لم يُضع شاعريَّتَه في الغزل والتشبيب بالمرأة وبيان محاسنها ومفاتنها، وإنما جندها - شاعريته -  لبيان محاسن الإسلام والكشف عن حقائقه، واستنهاض الهمم، وتذكير المسلمين بمكانتهم ودورهم في العالم.


ترجمة شعر إقبال

إن نقل النثر - لأي كان - نصا وروحا، من لغة إلى أخرى عملية صعبة، ونقل الشعر إلى النثر -  فضلا عن الشعر -  أصعب، أما نقل شعر إقبال إلى الشعر فأكثر صعوبة ودقة . .

والذين قاموا بترجمة شعر إقبال شعرًا لم يوفقوا - مع تقديري لعظيم جهدهم وبليغ كدحهم الذي بذلوه في الترجمة - ولم يحسنوا لا إلى إقبال ولا إلى شعره، ولا حتى إلى الناطقين بالعربية، فكأنه - شعر إقبال المترجم بالعربية - جسد بلا روح .. أو طعام بلا ملح .. او تمر بلا حلاوة .. 

إنهم - مترجمو شعر إقبال إلى العربية - يمكن أن يكونوا قد نجحوا - نجاحا ما - في ترجمة بعض معاني الشعر ترجمة ساذجة عابرة خفيفة .. ولكن أنى لهم أن يحالفهم التوفيق في نقل الروح .. فالتصرف في الروح ليس بيد البشر .. !

ومعظم شعر إقبال قد تم نقله إلى العربية شعرا .. وجزى الله الناقلين الكرام خيرا، فقد بذلوا من الجهد ما لا يقدر ولا يوصف ..

ولكن مع ذلك كله .. يظل رأينا في الترجمة، الذي أسلفناه .. 

ولعل من المناسب أن نضرب مثالا للترجمة، فكما يقال : بالمثال يتضح المقال ...

من قصائد إقبال الشهيرة : قصيدة " خودی کا سر نہاں لا إله إلا الله "، التي تعد من أروع قصائد إقبال، والتي يحفظها عدد كبير من طلاب المدارس والمعاهد الدينية، ورجال الذوق الأدبي الإسلامي من عامة المسلمين، هذه قصيدة نسيج وحدها، فهي آية في روعة جرسها ونغمتها،  ودقة معانيها و ابتكار أسلوبها .. 

وكل بيت من أبيات هذه القصيدة بحر من المعاني، يحتاج شرحه إلى صفحات،  وصياغةُ القصيدة العجيبة ونسيجها التركيبي، وحبكها التعبيري ونظمها التأليفي يستلفت القاريء أكثر من المعاني .. ، وإن كانت - المعاني - هي الأخرى ليست بأقل دقة وروعة وندرة  وجمالا وحصدا للإعجاب والاستعجاب .

تدور القصيدة حول : " خودي " وغرائبه وعجائبه، ومعجزاته وصنائعه . 

وقد تجلت عبقرية إقبال الشاعرية، أو شاعرية إقبال العبقرية - في هذه القصيدة الغراء - أجمل و أتم وأروع ما يكون .. 

الحقيقة أنني لست بقادر على وصف مزايا هذه القصيدة  بدقة، فما تمتاز به القصيدة من ندرة الأسلوب وسحر الإيقاع وموسيقى تكرار بعض الكلمات وحسن التعبير وجمال الأداء وقوة التأثير  وعمق المعاني . . كل ذلك يستشعره القاريء إذا قرأ القصيدة في لغتها،  وفهمها حق الفهم .. وإلا فالترجمة لا تستطيع أن تنقل إعجاز القصيدة إلى قارئها مهما بلغت من الدقة والشمول مبلغها . .

أورد - فيما يلي - أبياتا من القصيدة، وأتبعها ترجمتَها ..

خودی کا سر نہاں لا الہ الا  اللہ

خودی ہے تیغ فساں لا الہ الااللہ 

ترجمته :

مستسر في الذات معنى بعيدٌ

سرُّه    لا      إله     إلا     الله 

سيف الذات  قاطعٌ  غيرُ  نابٍ

شحذُه    لا   إله      إلا   الله 


یہ دور اپنے براہیم کی تلاش میں ہے

صنم  کدہ   ہے ‌جہاں  لا   الہ  الا  اللہ 

ترجمته : 

عصرنا يبتغي خليلا حطوما

وُثنَه . لا     إله     إلا    الله 


کیا ہے تونے متاع غرور کا سودا

فریب سود وزیاں  لا الہ الا اللہ

ترجمته :

في متاع الغرور تسعى وتبغي

ربحَه .  لا     إله       إلا   الله

يا أسير الخسار والربح ينسى

نفسه !  لا     إله     إلا    الله 


یہ مال ودولت دنیا یہ رشتہ وپیوند

بتان   وہم     گمان   لا  الہ  الا  اللہ

ترجمته :

مالُ دنياك والبنون خداع 

كله .        لا  إله   إلا الله

هي أصنام واهمٍ قد براها

وهمُه .        لا إله إلا الله 


خرد ہوئ  ہے زماں ومکاں کی زناری

نہ ہے زماں‌  نہ مکاں  لا الہ  الا  اللہ

ترجمته :

حبس العقلَ في مكان ووقتٍ

كفره . لا      إله      إلا    الله

لا  زمانٌ   و لا   مكانٌ  فحطم 

غلَّه .   لا       إله     إلا    الله  


هذه نماذج لترجمة أبيات لإقبال من قصيدة واحدة .. وفيها كفاية وغناء عن المزيد . 

فالذين يتذوقون اللغتين يكونون قد أدركوا الفرق بين الأصل الساحر والترجمة الفاترة ..

الأصلِ الموقظ المُقعد المقيم، المحرّك لوجدان القاريء،الدافق بالحركة، المترع بالحيوية والنشاط، المدغدغ للعواطف والمشاعر، المستنهض للهمم .

الأصلِ الذي يسجد له الفن سجدة طويلة .. 

 والترجمةِ الباردة الذابلة المفقودة الروح والحركة .

فالفرق بينهما كالفرق بين جسد ذي روح وبين تمثال ..

فذو الروح ذو روح . . والتمثال تمثال .. ولو أعجب الناظرين ..

حاشا من  أن أقلل قيمة الترجمة .. أو أسيء إلى المترجم ..  ولكنني أبين الفرق بين الأصل والترجمة ..  وبين الحقيقة والصورة .. ! والفرقُ بينهما كالفرق بين السماء والأرض !

ثم ليست اللغة وحدها، يستطيع بها القاريء أن يدرك معنى شعر إقبال .. بل هناك عناصر اخرى لا بد منها لفهم مغزى شعر إقبال .. بل ربما أهميتها تكاد تكون أهمية أساسية .. وهي - العناصر - : الشعور والوجدان ..  والعاطفة والحنان ..  والحب الصادق .. 

فإذا وجدت هذه العناصر إلى امتلاك ناصية اللغة و بصر بالتاريخ واطلاع على الأحداث .. أمكن للقاريء تذوق شعر إقبال والتوصل إلى أسراره .. 


من أقوال إقبال

- إن تاريخ الأمم يشهد منذ الأزل أن سكر القوة ونشوة الحكم خطر في خطر ومصيبة على مصيبة، إنه سيل جارف يكتسح العقل والفكر والعلم والمعرفة والفن والصناعة كحشائش ونباتات حقيرة، يجعلها هباء منثورا " .

- " إذا تخلت السياسة عن الدين صارت سما ناقعا، وإذا كانت في خدمته صارت ترياقا واقيا " .

- " قوة الذات تُحَوِّل حبة الخردل إلى جبل، وخور الذات يحول الجبل إلى حبة خردل " .

- " لا تتجنب الأزمنة الصعبة، من لم يتخط العقبات لا قيمة له .

ألا تعرف أن الموجة لا تكون ممتعة إلا عندما تلطم الصخور ؟ " .

- " خير أنواع الزهد ليس في هجر الطين والماء .

خير أنواع الزهد في غزو كل زاوية في الأرض و السماء " .

- " المؤمن ناعم كالحرير في حلقة الأصدقاء .

صلب كالحديد في معركة الحق والباطل، هذا هو المؤمن " .

- " تركتُ المدرسة و الدير، وأنا جد حزين .

فليس فيهما حياة، ولا حُب، ولا معرفة، ولا بصيرة " .

- " أن تعيش لحظة واحدة وأنت أسد .

خير لك أن تعيش نعجة إلى الأبد " .


عظمة إقبال

إقبال مات منذ زمان .. ولكن قلب الشاعر ما زال حيا يخفق .. لأن قلب الشاعر أقوى من الفناء .. وشعره ما زال يغرد ويرفرف بأجنحة من النور في سماء الخلود .. لأن شعره مقتبس من وحي التدبر في كتاب الله ..

فلم تقل عظمة إقبال بعد موته .. ، ولعلها ازدادت أكثر من ذي قبل .. لأنها مقتبسة من  عظمة : " مدرسة الإيمان " .. 

ولعل  شاعرا من الهند لم يحظ من الشهرة والقبول ما حظي به إقبال داخل الهند وخارجها على السواء .

ولعل شاعرا لم يُكتب عنه كما كتب عن إقبال، فقد بلغ ما صدر عن شخصية إقبال  بمختلف لغات العالم ألفي كتاب ورسالة ، هذا عدا ما نشر عنه من البحوث والمقالات والأطروحات الجامعية، وما ألقي من أحاديث ومحاضرات في مجالات مختلفة وحفلات أدبية في مناسبات مختلفة، وبذلك فاق محمد إقبال كبار شعراء العالم كـ : " شكسبير " الإنجليزي ، و " دانتے " الإيطالي، و " طاغور " الهندي ، فلم يكتب عنهم معشار ما كتب عن إقبال، وفي كل سنة يصدر فيض من البحوث والمقالات في الجامعات والمجامع العلمية والنوادي الأدبية، ولايزال في مد و زيادة دون توقف، وتتصاعد درجة درجة في سبيل التوصل لاستيعاب أفكار محمد إقبال وإدراكها . (٤) 

كل ذلك دليل على عظمة الشاعر محمد إقبال، وشهادةٌ بجلالة مكانته، وتربعِّه على عرش القلوب، وكونه حبيبا - أيضا - عند ذي عرش السماء، فألسنة الخلق أقلام الحق ..


                                        * * *


معلومات شتى عن محمد إقبال

- الولادة : ٩ نوفمبر ١٨٧٧م

- الوفاة : ٢١ أبريل ١٩٣٨م 

- ابنه : الدكتور جاويد إقبال

- والده : شيخ نور محمد 

- والدته : إمام بي

- نشأ محمد إقبال في الهند، وتخرج في جامعة " سيالكوت " ، ثم أتم دراسته في لاهور، وفي الجامعة تعرف إقبال على المستشرق البريطاني الشهير " السير توماس أرنولد " ، وقد كان أرنولد أستاذا مباشرا لإقبال، وهو أول من تعلم منه من الأوروبيين، و نظم إقبال قصيدة " نُواح الفراق " عند موت أستاذه أرنولد . 

- سافر إلى لندن، وعمل بها فترة : سنة ١٣٢٣ھ - ١٩٠٠م ، ثم سافر إلى ألمانيا، وحصل على درجة الدكتوراة من "' جامعة ميونخ " عام ١٩٠٨م ، عن أطروحته حول تطور ما وراء الطبيعة في بلاد فارس .

وفي العام نفسه عاد إلى لاهور، والتحق بجامعة الكلية الحكومية كأستاذ للفلسفة والأدب الإنجليزي .

- من أشهر دواوينه : " جناح جبريل " و " رسالة المشرق " و " ضرب الكليم " و " هدية الحجاز " و " الأسرار والرموز " و " صلصلة الجرس " .

- أما أهم كتبه النثرية، فـ : " تجديد الفكر الديني " و " تطور الميتافيزيقيا في بلاد فارس " ، وكان من آخر ما كتب وهو على فراش الموت ( حسب ترجمة الندوي ) .

- في عام ١٩٢٢م حصل على وسام فارس من قبل الملك جورج الخامس .

                   

                                   * * *


الهوامش والمراجع


(١) أي شعره  ترجمانُ القرآن ، أو  مصدر شعره ومنبعه : القرآن ، كما سيأتي الكلام عن ذلك في السطور الآتية .

(٢) مصطفى صادق الرافعي : وحي القلم ٣/ ٣١١ .

دار الكتاب العربي، بيروت .

(٣) أيضا ٣/ ٢٩٩ - ٣٠٠ .

(٤)  هذه المعلومات  - عما كتب عن إقبال  -  مأخوذة من : " روائع إقبال " للشيخ الندوي، و : " ديوان إقبال "  من إعداد سيد عبد الماجد الغوري، والجدير بالذكر أن " ديوان إقبال " أحد مراجع المقال .

- الأبيات الواردة في المقال، ترجمةُ معظمِها مقتبسةٌ من " روائع إقبال" للشيخ الندوي .


( الأربعاء : ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٥ھ - ٦ ديسمبر ٢٠٢٣م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده