ماذا تتمنى الأمة . . ؟
من وحي الأيام
ماذا تتمنى الأمة . . ؟
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
( غزة ) صارت اليوم رمزًا للصمود والتضحية والفداء .. ومفخرة لجميع المسلمين، بل ولأحرار العالم أجمع .
فإذا ذكرت ( غزة ) أو سُمع اسمها، تبادرت إلى الأذهان معاني العزة والشرف، والحرص على الحرية والكرامة، والتضحية بالنفوس والأهل والأولاد والبيوت من أجل تحرير الوطن من العدو الإسرائيلي الذي أُعِدّ قِوَامُه من الغصب والقهر، والظلم والعدوان .
( غزة ) فعلت ما عجز عنه جميع الدول العربية مجتمعة ...
إنها أذاقت العدو الصاب والعلقم .. وحطمت كبرياءه، ومرّغتها في التراب، و جعلت :" أسطورته العسكرية " مهزلة أمام العالم .. وقوة من ورق .. !
كم أمة سكرت بكأس غرورها
ذهب الإله بجيشها الأسطوري
إن أبطال (غزة ) ما زالوا يضربون أروع البطولات في الصمود والثبات ، ويقدمون أجمل الصور من التضحية والفداء من أجل تحرير الوطن .. ولا بد لكل تحرير من ثمن، ولا بد لكل وطن يُستَرَدُّ من دم يسقى به .
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا
فما حيلة المضطر إلا ركوبها
لقد اندفعوا محررين مطهرين ... محررين الوطن من رق الاحتلال، ومطهرين الأرض المباركة من الوجود الدنس .. وجود " حثالة البشر " و " زبالة بني آدم " : اليهود المغضوب عليهم .
إنهم يواجهون الهجمات اليهودية - الوحشية الحاقدة المتعطشة للدماء والقتل - بثبات نادر، وشجاعة لا توصف، وبطولة إيمانية لا تقهر .. بطولة ذكَّرَت الأمة ببطولات السابقين وتضحياتهم ...
فلا شك أن أبطال غزة قد ملأوا الدنيا رجولة وعفة وشهامة، وحصلوا على احترام الجميع .
ومن حق الأمة كلها أن تهلل وتسبح وتكبر .. مزهوة ببطولات أهل ( غزة العزة ) ، معبرة عن سرورها الدافق، واطمئنانها الواثق إلى الحاضر المُبَشِّر، وعن أملها الأكيد في المستقبل المشرق المنير
إن أهل غزة يواجهون ما يواجهون - من الهمجية الإسرائلية التي تجاوزت كل حد - في غياب مُخزٍ من " الحمية " و " الغيرة " ، وانعدام مذهل من" المروءة " ، و فقدان عجيب من " النصرة " ، وفي بُعْد غير مسبوق من " النجدة" و " المؤاساة " ، و في حرمان كامل من " تعاطف الأهل وشركاء المصير وأقرباء الدم والدين " ، وفي طغيان سافر من :" أزمة الضمير " و " ضياع الرحمة " و " أثرة المصالح الخاصة ... وفي تعبير حاسم فاصل : وسط : " مقاطعة شاملة " أو "شبه إجماع أهلي " على ترك النصرة .
و اللهِ شيء مؤسف جدا جدا . .
أ لهذا الحد تبلد الحس .. وضعف الشعور - إن لم نقل : مات الشعور - بجراحات الأشقاء .. !
أين أخوة العروبة .. ؟
أين أخوة الإسلام .. ؟
أين المودة في القربى .. ؟ { إلا المودة في القربى } .
أين المراعاة لمشاعر القرابة بل الإنسانية .. ؟
مما قرأنا من شيم العرب التي تعتبر سمات مميزة لهم : السماحة، والمروءة، والندى، والوفاء، والنجدة، والجود والكرم، والشهامة، والشجاعة، والتعاون، ومد يد الخير لدى الملمات، وسلامة الفطرة، ورقة الطبع، والغيرة على الأعراض والمحافظة عليها، وما إلى ذلك ..
وكانت في مقدمة هذه الصفات : الشهامة وعزة النفس ونصرة المظلوم، فأكثر ما كان يثير العربي إهانته وإذلاله، أو إهانة أحد أفراد قبيلته، بل حتى مواشي القبيلة أو ضيوفها، فكان لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال، حتى يثأر لذلك، ونقدم لذلك أمثلة من الجاهلية والإسلام :
أ- كما حصل عند ما ثأر جساس بن مرة لناقة البسوس بقتل كليب سيد قومه، ومنذ ذلك الحين شاع المثل : " سيد كليب في الناقة" وعلى أثرها اشتعلت حرب البسوس .
ب- عندما كان الشاعر عمرو بن كلثوم في زيارة لديار المناذرة، وأمه معه، وتعرضت لإهانة من قبل بعض نساء القصر، فصرخت مستنجدة بابنها الذي هبّ ملبيًا لصرخة والدته، وقال - غاضبًا - قصيدته المشهورة متحديًا المناذرة وغيرهم في عقر دارهم، ومن أبياتها :
ألا.. لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ج- عندما انتصر الخليفة العباسي هارون الرشيد في إحدى معاركه على ( إيرين ) ملكة الروم، وأجبرها على دفع الجزية، انقلب عليها قائدها ( نقفور ) وسجنها واستولى على الحكم، ووجه خطابًا يحمل الوقاحة والصلف الروماني، وينفث بسموم الحقد، الذي كانوا ولا يزالون يحملونه للأمة العربية خاصة، والإسلام عامة، وقد جاء في الخطاب :
" أما بعد . فإن ( إيرين ) قد وضعتك موضع التيس، ووضعت نفسها منك موضع الشاة، فأد إليّ ما كنت تأخذ منها " .
فغضب الخليفة الهاشمي العربي لوقاحة الرومي المتعجرف، وأجابه بخطاب يلي :
" من عبد الله هارون إلى نقفور كلب الروم .
أما بعد . فإن الجواب ما ستراه وليس ما ستسمعه " .
وجهز الجيش وسار إليه، ولم يبعث بالجواب إلا عند وصوله إلى حدود الروم، فكانت المفاجأة المذهلة للروم، وانتهت المعركة بالنصر المؤزر، واقتياد نقفور نفسه أسيرًا .
د- ولا ننسى المرأة التي تعرضت في عمورية للاعتداء من العلوج الرومان، واستنجدت بالخليفة المعتصم عندما صرخت تقول : ( وا معتصماه ) ، فأجابها : ( لبيك يا أماه ) ، وتحرك جيشه رغم نصح بعض الساسة والدبلوماسيين له بعدم التحرك، وحل الأمور بالطرق الدبلوماسية، أو التفاوض ( بلغة العصر ) ، ولكنه أصر على الانتصار للمرأة، لأنه غضب لانتهاك محارم الإسلام وحدوده، وقد قال الشاعر أبو تمام بعد نهاية المعركة قصيدة طويلة جاء فيها :
السيف أصدق أنباءً من الكتب
في حدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف
في متونهن جلاء الشك والرِّيَبِ
يا ليت العرب تعود إلى ما كانت عليه ... !
هذا ما تتمناه الأمة كلها. . . ، لأن خيرها مربوط بخير العرب، والعكس صحيح .. !
(الأربعاء : ٢٣ ربيع الآخر ١٤٤٥ھ - ٨ نوفمبر ٢٠٢٣م )
تعليقات
إرسال تعليق