نعمة الألم

 على مائدة العلم والأدب

نعمة الألم

محمد نعمان الدين الندوي

لكناؤ، الهند


لعل بعض القراء يتوقف قليلا ..  عندما يقع نظره على  العنوان ..  ويتساءل :  هل الألم يكون نعمة يا ترى  .. ؟ 

فالألم ألم .. ، ومن الألم ما يجعل الإنسان يتململ تململ السليم ، ويجعله يتقلب على أحر من الجمر .. ، ويقضي على مسرات حياته، ويحرمه هدوءه الذهني وطمأنينته القلبية و .. و . .

بينما النعمة ضد ذلك  تماما .. فهي ما يُسعد الإنسان ويُرضيه، ويعطيه الراحة القلبية .. 

فما معنى : نعمة الألم ؟

أقول : صحيح أن هذا السؤال -  في حد ذاته ..   وفي مجموعه -  في محله . . ولا يُرفض في بادىء النظر . . !

ولكن .. - مع ذلك - لَصحيحٌ - أيضا -  أن المكروه قد يتحول نعمة  .. ، وصرخة الألم  تستحيل مراحًا .. ،  والشر قد ينقلب خيرا . . . { عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } ..

نعم . إن الحزن أو الألم يكون - في بعض الأحيان - راحة ونعمة، وخيرا وبركةً لصاحبه، وذلك حينما يتحول الألم أو الحزن رافدا عظيما من روافد الإلهام، ومصدرا ثرا من مصادر الإبداع لدى المؤهلِّين الموهوبين، فكأن الألم يثير فيهم معاني مبتكرة، ما كانوا وُفِّقوا لإبداعها لولا أن أصابهم ما أصابهم من الألم أو الهم والحزن . .  !

ولْنضربْ أمثلة .. ليتضح المعنى .. فبالمثال يتضح المقال . . 

فهذا  العم المتنبي - كما يصفه بعض كبار الكتاب العرب -  لما أصيب بـ : " الحمى " ، تألم . . وفعلت معه الحمى ما تفعل مع ضحاياها .. ، جادت قريحة الشاعر ( الأسطورة )  بالقصيدة الخالدة  : 


و زائرتي   كأنّ    بها    حياء

فليس  تزور  إلا في  الظلام 

بذلت لها لمطارف  والحشايا

فعافتها وباتت في  عظامي


إلى آخر القصيدة  . . .

أفليست  القصيدة هذه من مِنَحِ الألم . . ؟

أفليس التألم . . هو الذي جعل لسان الشاعر يفيض بهذه الأبيات الغر في وصف أفاعيل :" الحمى " هذا الوصف البديع . .  ؟

مثال آخر : 

لما خوّف النعمانُ بن المنذر النابغةَ بالقتل، ثارت شاعريته، ونشطت قريحته، وفاض لسانه، فإذا به  يُتحِفُ العالمَ بالقصيدة المعروفة  العصماء التي من أبياتها :


فإنك  شمس  والملوك   كواكب

إذا طلعت  لم يبد منهن  كوكب

ولستَ   بمستبقٍ   أخا   لا  تَلُمَّه 

على  شَعَثٍ  أيُّ الرجالِ المُهَذَّب

فإن  أكُ  مظلومًا   فعبدٌ  ظلمتَه

و إن تكُ ذا عُتبٰى  فمِثلُك يُعتب


فقد ينقلب ( الألم ) أو ( الصدمة ) قوة فكرية مُلهِمة، تكون سببا لتفجير القرائح، وتحريك الطبائع، ونثر الدرر من روائع الحكم وبدائع المعاني على ألسنة أصحاب الألم من حملة القلم .

الألم لا يُعَطِّل ذوي الهمة والطموح  عن العمل، ولا يمنعهم من الإنتاج، بل - بالعكس - يُقَوّي عزائمهم،  ويشحذ  فِكَرَهم، ويُحَرِّك منابع إبداعهم، ويُنَشِّط مداركهم، ويفيض على ألسنتهم وأسنة أقلامهم من روائع الكلام ما قد يُكتب بماء الذهب، وتتلقفه الألسنة وتتناقله الناس صدرا عن صدر . . 

و من هنا  . .  كان الألم  - في بعض الأحيان - شيئا مطلوبا . . يُحرَصُ على  نيلِه .. ويُتمنى لإحرازه ..  وخاصةً لدى الكتاب وحملة القلم، فلا يجزعون من الألم ولا يخافون من المعاناة، بل  يودون لو يُعطَون : " نعمة الألم " بـ : " نقمة الراحة " .. ! 

أجل .. إنهم قد يتمنون الألم . .  ، وكأنهم يعتبرونه  متعة أو سلامة وراحة بال  . . أو شيئا يأنسون به ،  و  يشعرون بأنهم أضحوا بلا قلب  إذا حُرِمُوا الألم . .  ، أو كأن الألم يكون - عندهم - مثارا لِلَذّة من لذات الروح ، وسببا للطمأنينة النفسية . .  لا مبعث قلق واضطراب . .  ، فهذا الأديب الكبير علي الطنطاوي كان يعاني من : " الراحة " ،  فيطلب : " الألم " ، يقول  : 

" إني أشكو  :" ألم الراحة " ، فأعطوني به : " راحة الألم " ، فإني منذ فقدته، لم أعد أحس أني ذو قلب . .  " (١) .

لننظر في التعبير الموحي :" راحة الألم " . . وكأنه يعتبر الألم راحة . . والراحةُ - طبعا - نعمة . . وأي نعمة .. !

و قال بعض المفكرين إن هناك صلة بين الألم والعظمة . . فلا عظمة بدون الألم . . و لا إبداع بلا معاناة .. يقول مرسيه الفرنسي : 

" لن تكون عظيما إلا بألم عظيم "  .

ذلك الألم الذي سماه بعض الأدباء : " الألم العبقري " ... ، الألم الذي يفتح القلوب بآيات الشعر . . . - كما قال ألفريد دي  موسيه ( alfred de musset) - ويُضفي على الإنتاج مسحة من الاعتبار والعبقرية، والحرارة والقوة، وطابعا من الحياة والخلود، ويأتي بالعجائب، ويُفَجِّر القرائح،  ويصنع المعجزات في مجال الفن والإبداع .

ولعل التراث الأدبي - بشتى أشكاله وفنونه - معظمُه مَدِينٌ للألم - بمختلف صوره وأنواعه - أكثر منه للمتعة .. 

هذا أمر لا يدعيه كاتب المقال، بل قاله العديد من الكتاب الذين كانوا أكبر منه علما وفضلا، وأوسع اطلاعا على آداب الأمم وثقافاتها، فهذا الكاتب المصري الكبير أحمد أمين لا يعترف بمجرد فضل الألم على الأدب، بل يقول إن فضل الألم على الأدب أكبر من فضل اللذة، يقول في فيض الخاطر :

" ولننظر إلى أثر اللذة في الحياة العامة وأثر الألم فيها، فيخيل إلي أننا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، وأن فضل الألم على العالم أكبر من فضل اللذة .. 

إن شئت فتعال معي نبحث في عالم الأدب : أليس أكثره وغيره وليد الألم ؟ أو ليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق ؟ ذلك الألم الطويل العريض العميق تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ؛ وليس هذا الوصال اللذيذ بمنتج أدبا كالذي ينتجه ألم الفراق، وإن الأديب كلما صهره الحب، وبرّح به الألم، كان أرقى أدبًا، وأصدق قولًا، وأشد في نفوس السامعين أثرًا، ولو عشق الأديب فَوُفِّق كل التوفيق في عشقه، وأسعفه الحبيب دائما، ومتعه بما يرغب دائما، ووجد كل ما يطلب حاضرا دائما، لسئم ومل، وتبلدت نفسه، وجمدت قريحته، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب؛ ولو كان مجنون ليلى عاقل ليلى لكان كسائر العقلاء ... وإنما فَضَل المجنون لأن نفسه كانت أشد حسا وأكثر ألما .

لو لا علو همة المتنبي، ما كان شعره، وما علو همته ؟ أليست كراهية الحياة الدُّوْن، والألم من أن يُعَد من سقط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر او القبر ؟ وعلى هذا المحور دارت حياته، ودار شعره، ولو نشأ قانعا لما فارق بلدته، ولكان سقاء كأبيه يروي الماء ولا يروي الشعر .

وما قيمة المَعَرِّي لو لا ألمه من الفقر والعمى ؟ لو كان غنيا بصيرا لما رأيت لزومياته ولا أعجِبْت بكلامه، ولكان إنسانا آخر ذهب فيمن ذهب؛ إنما خلده ألَمُ نفسه، وأبقى اسمَه قوةُ حسه " (٢)

فليهنأ أصحاب هذا : " الألم " . . . الألم الملهِم المنتج العبقري الخلاق .. الذي يفجر ينابيع الحكمة والإبداع على لسان صاحبه، ويبرز الطاقة الهائلة المستورة في الإنسان الذي قد يكون - نفسه - غير عارف بها، ويحرك قريحته، ويطلق لسانه، ويُنْطقه بالبدائع والغرر من الكلام، ويحقق على يده معجزة . . معجزة بيانية أو بنائية في بعض الأحيان .. فما الذي دفع الإمبراطور المغولي شاه جهان إلى بناء :" تاج محل " .. تلك الدرة اليتيمة المعجزة في تاريخ البناء، والتحفة المعمارية الفذة التي لا نظير لها ... ، إنه - الدافع إلى إنشاء تاج محل - الألم .. أو الحزن .. أو قل : " ألم الحب " إذا شئت !

فلطالما أسفر الألم أو الحزن عن الإنتاج العبقري، والإنجاز العملاق للإنسان المنعَمِ عليه بـ : " نعمة الألم " . .  ، وجعله فارسا من فرسان : " الكلمة " المشاهير، أو أدى - الألم - إلى تخليد مجد عظيم، أو تَرْكِ أثرٍ خالدٍ في صفحات التاريخ، فالطريق إلى " الإبداع " أو " النبوغ " أو تحقيق " بطولة " أو إنجاز عمل ذي شأن، قد يمر بـعقبة :" الألم " ، أو هضبة " المعاناة " ، أو غابة " الصاب والعلقم " !

إذًا . . المفروض أن لا يكون - هناك  - استياء أو تألُّم من " الألم " أو تضايق بدواعي " الحزن " ، بل لِيَكُنْ تعايشّ وتكيُّفّ مع الألم والحزن .. إذا ألمَّا .. ولا قدر الله ..  { عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم } ( البقرة : ١١٦ ) .

على كل . .  فإذا قلنا : إن الألم أو الحزن نعمة  .. ، وصَدفٌ لدُرّ الفضل . . ، وأكمامٌ لطَلْع أبكار المعاني وبدائع الأفكار . . ما تجاوزنا الصواب !

  ولو عَرَف الذين حُرموا " لذة الألم " أو " متعة الحزن " ، لتنافسوا - وأصحاب الإبداع والفن منهم بصفة خاصة - في الحصول عليهما . . 

فالإبداع الحقيقي لا يكون إبداعا حقيقيا حيا خالدا، ما لم يكن وراءه رصيد من " التألم القلبي " ، و " الحرقة الداخلية " ، والحرمانُ الباعث على التوجع والقلق والاضطراب، والشعورُ العميق بلذعة اليأس، ومرارة العيش، وشقاء الحياة، وشدة البؤس، وصدمة الألم !

والفكرة الحيّة الحارّة لا تنبت في ذهن بارد .. وإنما تنبثق من قلب متألم جريح مكلوم .. أو تنبع من القريحة المقروحة بالألم . .  

و النثر  بدون الألم . .  لا قيمة له ولا أثر ولا خلود . . و يبقى مجردَ صياغة لفظية عارية من الروح والحياة . . 

والشعر لا يكون شعرا بمعنى الكلمة . .  ما لم يُطَعَّم بالمعاناة والألم .. 

ويحلو لي أن أمتع القراء - في ختام هذا المقال -  بأبيات من قصيدة رائعة سارت بها الركبان ، وخلدها الزمان، قالها شاعر - وهو يودع الحياة - عانى  من ألم  الفراق، وذاق مرارة الحياة، وعاش الحرمان والأسى . . .  وهو مالك بن الرّيب، الذي قال هذه القصيدة التي يرثي فيها نفسه :


ألم   تَرَني     بعتُ    الضلالة  بالهدى

وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا

فلله    درّي     يومَ     أُترَك     طائعا

بَنِيَّ       بأعلى  الرَّقمتين     وما لِيا

فيا صاحبَىْ رَحْلي دنا  الموت فانزلا

برابيةٍ         إني      مقيمٌ      ليالي 

أقيما  عليَّ   اليوم    أو بعض   ليلةٍ 

و لا تُعجِلاني      قد     تبَيَّن  ما بيا

و   خُطّا   بأطراف   الأسنة مضجعي

و رُدّا  علي   عَيْنَيَّ    فضل    ردائيا

و لا  تحسداني  بارك    الله    فيكما

من الأرض ذاتِ العَرْض أن تُوسِعا ليا


رحم الله الشاعر المتألم المسكين  الحزين،  فقد عبر -  عما كان يعاني من صدمة الألم  ولوعة الفراق، وعن مشاعره التي كانت تتلظى في صدره حسرة ويأسا ومرارة - أصدق تعبير  يلتهب حرارة بل يشتعل نارا ويثور حمما ..  

ولله درُّ من قال :


لا تعذل المشتاق  في  أشواقه

حتى يكون حشاك في أحشائه


الهوامش والمراجع

(١) علي الطنطاوي : ذكريات علي الطنطاوي : ٣ / ٢٤٤ . 

الطبعة الأولى : ١٤٠٩ھ - ١٩٨٩م 

دار المنارة، جدة، السعودية .

(٢) أحمد أمين : فيض الخاطر : ١/ ١٠٢

 مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة .


( الثلاثاء : ٦ جمادى الأولى ١٤٤٥ھ - ٢١ نوفمبر ٢٠٢٣م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده