حوار طلابي تمثيلي
هدية حيدرآباد إلى متعلمي لغة الضاد
حوار طلابي تمثيلي
حول مكانة اللغة العربية وخصائصها
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
[ هذا الحوار كان أعد - قبل ما يزيد عشرين سنة - لمسابقة طلابية عقدت بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ حيدرآباد (١) - الهند، ثم أعيد تقديمه في مناسبات ثقافية أخرى من الجامعة، و بدا للكاتب - أخيرا - أن ينشر هذا الحوار - بعد تناوله بتعديل خفيف - عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فعسى أن يجد الإخوة الطلاب الدارسون في المعاهد و المدارس العربية فيه بعض ما ينفعهم، ويقوي صلتهم باللغة العربية، فَيُقبِلُوا - بمزيد من الشوق والقناعة والعناية - على تعلم لغة القرآن الكريم والتمكن منها والإتقان فيها ] .
إلى الحوار👇
عبدالعزيز : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أخي عبدالرحمن !
عبدالرحمن : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أخي عبدالعزيز !
عبدالعزيز : كيف حالك يا أخي ؟
عبدالرحمن : في خير وعافية ... فالحمد لله ! وكيف أنت يا أخي ؟
عبد العزيز : أنا كذلك . . والحمد لله ! فأتمتع بصحة جيدة وخير وعافية، وكل شيء على ما يرام .
عبدالرحمن : أخي عبد العزيز ! أراك هذه الأيام تجتهد كثيرا في اللغة العربية ، فتقرا - كل وقت - جريدة عربية أو صحيفة عربية أو كتابا أدبيا في اللغة العربية . . ؟
عبدالعزيز : نعم يا أخي ا لقد أصبتَ . . . ! فقد بدأنا - والحمد الله - نعي أهمية اللغة العربية ، لأن أساتذة اللغة العربية - جزاهم الله خيرا - حببوا إلى نفوسنا هذه اللغة الكريمة، وأشعرونا بفضلها وجلالتها
.
عبد الرحمن : أخي عبد العزيز ! هذا العصر عصر اللغة الإنجليزية ، فمن يتقن في اللغة الإنجليزية ويتمكن منها ينظر إليه نظرة إكبار وإعجاب ، فإذا كنتَ مجتهدا . . فاجتهد في اللغة الإنجليزية تنل العزة والمكانة المرموقة .
عبدالعزيز : أخي عبدالرحمان ! أنا لا أنكر أهمية اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات، فمن تعلم لغة قوم أمن مكرهم ، وكما قال الشاعر :
بقدر لغات المرء يكثر نفعه
وتلك له عند الشدائد أعوان
فبادر إلى حفظ اللغات وفهمها
فكل لسان في الحقيقة إنسان
فأنا يا أخي عبد الرحمان ! لا أنكر أهمية اللغة الإنجليزية ، فالمسلمون بحاجة ماسة إلى تعلم اللغات الأجنبية ، لكى يقوموا بدعوة الإسلام وتبليغه إلى مختلف الأمم والشعوب بألسنتها، ومعروف أن سلفنا - رحمهم الله - كانوا يؤلفون ويدرسون ما ينقلونه عن اللغات القديمة التي أجادوا معرفتها والترجمة عنها ، وهذه آثارهم في مكتبات العالم مخطوطةً بالعربية ، ومترجمةً عنها إلى اللاتينية تشهد بنبوغهم العلمي والفلسفي ، وتقدمهم على العلماء والفلاسفة من كل لسان عرفه العالم القديم، فأنا أعترف بأهمية اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات ، ولكن الأهمية الكبرى والأولوية والأفضلية للغة العربية الحبيبة .
عبدالرحمن : أخي عبدالعزيز ! لقد صرت تتكلم كثيرا مثل العرب منذ أن بدأت تجتهد في لغتهم ! ( و هنا يقطع عبد العزيز كلام عبدالرحمن الذي أساء إلى العرب بقوله ، فيتدخل رافعا صوته، ومعربا عن استيائه وسخطه لكلام عبدالرحمان ) .
عبدالعزيز : مهلا . . مهلا . . هداك الله يا أخى ! فإنك تتجاوز الحدود . . ! لا ينبغي لك أن تتناول العرب باللمز و الهمز ، ألم تسمع حدیث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه :
" أحبوا العرب لثلاث ، لأني عربي ، والقرآن عربي ، ولسان أهل الجنة عربي " .
وأيضا يقول :
" أَحِبَّ العرَبَ مِن قلبِك " .
ويقول :
" بغض العرب نفاق “ .
ألا تعرف فضل العرب ومكانتهم ، وأنهم اساتذتنا وقادتنا، فهم الذين وصل إلينا عن طريقهم هذا الدينُ الحنيف الذي أنقذنا من عبادة الأبقار والأحجار والروث والأوثان إلى عبادة رب العالمين ، خالقِ السموات والأرضين ، وأخرجنا من ضيق الدنيا إلى سعتها ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، فأنصحك أخي بأخذ الحيطة في الكلام عن أحد ، وخاصة عن العرب الذين بدمائهم وتضحياتهم انتشر هذا الإسلام من أقصى العالم إلى أقصاه .
عبدالرحمن : عفوا ومعـذرة يا أخي! إذا كان جرح كلامي مشاعرَك ، فما قصدت بكلامي الإساءة إلى العرب ، فمن ذا الذي يجهل مكانةَ العرب وفضلَهم ؟ ومن ذا الذي يتجرأ على إنكار التضحيات الجبارة التي قاموا بها إعلاءً لكلمة الحق ونشرًا لدين الله سبحانه وتعالى . . ولكني قصدت بكلامي ذلك أن العرب معروفون باللسن والفصاحة والبلاغة .... وثق بأنني ما أردتُ غير ذلك !
عبدالعزيز : جزاك الله خيراً وزادك توفيقا وفضلا ، فقد أعدتَ إليَّ ثقتي بك . . ثقتي بنبلك وكرم منبتك ، فقد كنتُ صُدمت بمقولتك تلك كثيرا ، لأنك تنتمي إلى أسرة عريقة في الفضل والعلم والمجد والشرف ، ولكنك لما بينتَ قصدك . . زال ظني بك ، وعدتُ أثق بصلاحك ونبلك ورجاحة عقلك .
عبد الرحمن : على كل حال .. نحمد الله الذي حفظ صفاء مودتنا من أن يعكره شيء ، ونسأله سبحانه أن يحفظ حبنا في المستقبل أيضا من الشوائب ، ويبقيه خالصا لوجه الكريم ، ولكن اسمح لي يا أخي ! بأن نعود إلى الموضوع ، فأرجو منك أن تبين لي فائدة الاجتهاد في اللغة العربية ، وهل براعتنا في اللغة العربية حوارا وكتابة وخطابة ترفع درجتنا عند الله سبحانه . . ؟
عبدالعزيز ( وهنا - أيضا - بدا شيء من السخط على وجهه وفي نبرات صوته - فيقول ) : عجيبٌ أمرُك والله يا أخي ! لا أدري كيف تقول هذا الكلام وأنت تدرس في مدرسة دينية كبيرة . . . لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم .
عبدالرحمن : أخي عبد العزيز ! أرجوك . . . أرجوك . . . لا تغضب علي . . . كل ما أريده منك هو أن تُفهِمَني فائدة الاجتهاد في اللغة العربية .
عبدالعزيز : إذا كنت جادا في هذا الأمر ، وتريد - فعلا - أن تعرف أهمية اللغة العربية وفضلها ومكانتها ومميزاتها وخصائصها وعدد حروفها وتأثيرها في اللغات . . . فهذا يحتاج إلى فرصة أوسع و وقت غير قليل .
عبدالرحمن : لا بأس . . . فأنا مستعد للجلوس معك والاستماع إليك طول الليل، فغدًا عندي عطلة . . . ثم إن هذا الموضوع - كما يبدو من كلامك -
موضوع هام يستحق أن أضحي من أجل تفهمه براحتي ونومي . . !
عبدالعزيز : بارك الله فيك وألهمك حب هذه اللغة الكريمة . . . أخي عبدالرحمن ! لقد كنتُ أنا أيضا - فيما مضى من الأيام - مثلك . . أعُدُّ الاجتهادَ في العربية مضيعة للوقت، وبذلَه فيما لا يعود بطائل ولا فائدة ، ولكن منذ أن بين لنا أساتذتنا الذين يُدَرِّسُون اللغة العربية أهميتَها وفضلَها ، تغير لنا رأينا في العربية ، فأصبحنا نؤمن بأهميتها وفضلها ، وطفقنا نبذل قصارى جهدنا في تعلمها وإتقانها ، والخوض في بحرها الزخار الذي لاحد له ولاقرار . .
عبدالرحمن : أراك يا أخي عبد العزيز ! قد بدت عليك آثار التعب . . فقد أزعجتُك بكثرة أسئلتي . . فأرى أن نؤجل هذا الموضوع إلى فرصة أخرى . . نجتمع فيها ونتكلم حول أهمية اللغة العربية. . ؟
عبدالعزيز : لا يا أخي ! فأنا لا أزال - والحمد لله - في تمام النشاط والاستعداد للكلام ، ولكن يمكن أن يساهم في هذا الحديث بعض زملائي الآخرين - أيضا الذين ليسوا أقل اقتناعا مني بأهمية العربية ، وهم - كذلك - قادرون على بیان فضلها وفائدة الاجتهاد فيها ، ( يأتي طالب آخر ويساهم في الحوار ) .
عبد المحسن : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبدالعزيز : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، مرحبا بالأخ الصالح عبد المحسن الذي كنت مشتاقا إلى رؤيته ولقائه .
عبد المحسن : وأنا كذلك كنت حريصا على مقابلتكم .
عبدالعزيز : أخي عبدالمحسن ! لقد أتيتَ في الوقت الذي كنتُ فيه بانتظارك، هذا أخونا في الله عبد الرحمن يَدرُس في الصف الثالث في مدرسة دينية ، وهو - مع صلاحه ونبله - غير مقتنع بأهمية العربية، وأنت أفصح مني لسانا وأعظم بيانا . . . أرجوك أن تساعدني في إقناعه بأهمية العربية وبيان خصائصها ومزاياها .
عبدالمحسن : حاضر ! وأشكرك على ثقتك بي سائلا المولى سبحانه أن يجعلني كما ظننتَ بي أخي عبد العزيز ! ( ثم يقبل على عبدالرحمن قائلا : أنا سعيد بلقائك ومرحبا بك ).
عبد الرحمن : أنا كذلك . . . أرحب بك أخا كريما ، وأحرص على الاستماع إليك .
عبدالمحسن : أخي عبد الرحمن ! لقد بين لنا أساتذة اللغة العربية أن العربية تمتاز عن غيرها من اللغات بعدة خصائص ومزايا ، اكتفي بذكر بعض منها لضيق الوقت .
عبد الرحمن : تفضل .
عبدالمحسن : إن من مزايا العربية أنها لغة السعة والغنى والثراء .... !
عبد الرحمن : لحظة ... يا أخي عبد المحسن ! ما معنى قولك : إن العربية لغة الغنى والثراء ....؟ فما سمعت قط أن لغة تكون غنية أو ثرية ؟ فالثراء والغنى يتعلق بالإنسان لا بشيء غير عاقل . .
( هنا يبدى عبدالمحسن بعض استنكاره واستيائه لمقاطعة عبد الرحمن لكلامه، فيقول بصوت فيه أثر من الغضب، وبأسلوب شديد اللهجة ) .
عبدالمحسن : أخي عبدالرحمن ! أنت متعجل جداً ، فقد تدخلت في كلامي قبل أن أكمله . . . وقد علمنا أساتذتنا أنه لا ينبغي لإنسان أن يقطع كلام مخاطبه ، بل يعطيه فرصه إتمام كلامه ، ثم بعد ذلك يعلق أو يستفسر أو يستوضح إذا اقتضى المقام ذلك .
عبدالرحمن : جزاك الله خيرا يا أخي ! فقد علمتني أدبا جميلا من آداب الكلام، والآن أَكمِل كلامَك أَستَمعْ إليك !
عبدالمحسن : أخي عبدَ الرحمن ! كنت أقول لك إن أساتذتنا أخبرونا بأن العربية لغة السعة والثراء .... وقد تحدث الإمام الشافعي - رحمه الله - عن سعة العربية فقال : " لسان العربية أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا “ ، ومعنى سعتها وثرائها أن العربية لغة غنية بمئات الآلاف من الألفاظ والكلمات ، فقد ذكر بعض اللغويين أن عدد الألفاظ المستعملة من العربية خمسة ملايين وتسعة وتسعون ألفا وأربعمائة لفظ . . من جملة ستة ملايين وستمائة وتسعة وتسعين ألفا وأربعمائة لفظ. .. بينما نجد اللغة الفرنسية لا تحتوي إلا خمسة وعشرين ألف كلمة فقط ، واللغة الإنجليزية لا تحتوي إلا مائة ألف كلمة فقط .
عبد العزيز : لي تعليق على كلمتك أخي عبدَ المحسن لو سمحت !
عبدالمحسن : تفضل !
عبدالعزيز : إنه بديهي أنه لا يمكن لأحد - مهما اجتهد وبلغ في العربية شأوا بعيدا - أن يَعُدّ جميع الألفاظ من العربية ، فمعنى ذلك أن العدد الحقيقي للألفاظ العربية أكثر بكثير مما عد منها ....
.
عبد المحسن : نعم .. نعم .. طبعا ... لا يمكن ذلك . . وجزاك الله خيرا عل هذا التعليق المفيد .
عبد العزيز : شَكرَ اللهُ لك وبارك فيك ! وتفضل مستمرا في كلامك الممتع عن حبيبتنا العربية .
عبد الرحمن : ( ملتفتا إلى عبد المحسن ) إي والله ! وذلك هو رجائي منك أن تواصل حديثك الشيق .
عبدالمحسن : من مزايا العربية - أيضا - كثرة الأسماء لمسمى واحد ، فقد حصر بعض اللغويين أسماء السيف والأسد فكانت أوراقا عدة ، واعلموا يا إخوان ! أن من أبرز خصائص العربية : الاشتقاق ، والاشتقاق يسهل إيجاد صيغ جديدة من الجذور القديمة ، والاشتقاق ثابت عن الله تعالى بنقل العدول عن رسول الله ﷺ ، فقد صح عنه : يقول الله تعالى : " أنا الرحمن ، خلقت الرحم ، وشققت لها من اسمى " . . والحديث في مسند الإمام أحمد رحمه الله .
( يدخل طالب رابع ويشارك في الحوار )
عبدالرحيم : السلام علیکم
عبدالعزيز : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، مرحبا بأخينا الفاضل الكريم عبد الرحيم ، كيف حالك ؟ ايش أخبارك ، كيف صحتك ..؟
عبد الرحيم : زين ... والحمد الله ، كنت أمر بمكان قريب منكم ، فلفت انتباهي بعضُ الكلمات عن حبيبتنا العربية ... وإن كنت في شغل هام ، ولكن حبَّ العربية أوقفني ، فأتيت إليكم لكي استفيد من مجلسكم العلمي الأدبي ، فهل تسمحون لي بالجلوس معكم .
عبدالعزيز : على الرحب والسعة .. وفرصة طيبة .
عبدالمحسن : أرجو الانتباه
عبد العزيز : تفضل . . تفضل .
عبدالمحسن : كنت أتكلم عن مزايا العربية ، فمن مزاياها - أيضا - أنها لغة ناضجة لغويا ، ولتوضيح هذا النضج اللغوي ضرب أستاذنا المثال ، فقال : إن نظام الإعراب هو من أهم النظم اللغوية التي تميز العربية عن غيرها من اللغات .. ، فقد أعطى هذا النظام الدقيق مرونة عجيبة للمتكلمين بالعربية تجعلهم غيرمُلزَمِين بترتيب عقيم للكلمات، يدل على الوظائف النحوية ، فإن اللغات الكثيرة تلزم متكلميها بترتيب معين للكلمات ، يميز الوظائف النحوية فيها ، ويَضِيعُ هذا التمييزُ إذا اختل هذا الترتيب ، فالإنجليزية مثلا تتبع ترتيب : فاعل - فعل - مفعول . . . فإذا أردت أن تقول : ( أكل زيد طعاما ) يجب أن يكون الترتيب : ( زيد أكل طعاما ) ولايجوز أن تقول : ( أكل زيد طعاما ) ولا : ( طعاما أكل زيد ) ولا : ( أكل طعاما زيد ) ، بينما يجوز لك أن تقول كل ذلك بالعربية ، وذلك لوجود علامات الإعراب التي تلحق بأواخر الكلمات وتميز الفعل من الفاعل من المفعول ، ونظام الإعراب هذا يدل على المرونة التي تتميز بها اللغة العربيةعن غيرها من اللغات .
عبدالرحيم : جزاك الله خيرا أخي عبدالمحسن ! على هذه المعلومة القيمة عن العربية ، وهل تسمحون لي بأن أحدثكم عن بعض ما أعرفه أنا من مزايا العربية ؟
عبد العزيز : بكل شوق .... فلكل واحد منا الحق كل الحق أن يدلي بدلوه في هذا الموضوع .
عبد الرحيم : من مزايا هذه اللغة – أيضا – كما قرأنا في كتب العربية أنها لغة الفصاحة والبيان والفخامة والقوة ، وأنها لغة الحكمة ، نعم ! اللغة العربية لغة الحكمة، فيقال : إذا أردت أن تخاطب كلبك فخاطبه باللغة الألمانية ، وإذا أردت أن تخاطب حصانك فخاطبه باللغة الإنجليزية ، وإذا أردت أن تخاطب زوجتك فخاطبها باللغة الفرنسية ، وإذا أردت أن تخاطب فيلسوفا أو حكيما، فخاطبه باللغة العربية . . . نعم إذا أردت أن تخاطب فيلسوفا أو حكيما فخاطبه باللغة العربية .
عبد العزيز : جزاك الله خيرا على هذه المعلومة القيمة التي ذكَّرَتْني بقول الإمام الفارابي - رحمه الله - عن اللسان العربي الذي قال :
" إن هذا اللسان كلام أهل الجنة، وهو المنزه بين أهل السنة عن كل نقيصة والمُعَلَّى من كل خسيسة ، ولذلك كانت هذه اللغة سيدة اللغات كمالا وقوة ومرونة وحيوية وقلبا وقالبا " ،
.... أخي عبد المحسن ! هل لك تعليق على هذه الكمة ؟
عبد المحسن : لا . . ولكن أريد أن أتحدث عن الخصيصة الكبرى والشرف الأعظم للعربية الذي استحقت به الخلود والصمود إلى يوم القيامة ، وهو أن الله سبحانه وتعالى اصطفى هذه اللغة لتكون وعاء كتابه الأخير الذي أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قرآنا عربيا : { إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } ( يوسف /٣ ) .
فمن هنا . . تنبع الأهمية الكبرى للعربية . . الأهمية الدينية والثقافية والتأريخية ، فالعربية مفتاح كنوز الكتاب والسنة ، والمدخل إلى فهم التراث الإسلامي العظيم، وهي التي حفظت روائع حضارتنا الإسلامية الزاهرة . . ومن هنا . . - أيضًا - تكتسب العربية خلودها وبقاءها إلى قيام الساعة ، وذلك لكونها لغة القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه وتخليده : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ( الحجر / ٩ ) .
عبدالعزيز : جزاك الله خيرا على ذكر هذه النقطة الهامة التي هي في الحقيقة واسطة العقد وبيت القصيد في هذا الحديث ، واسمحوا لي أيها الإخوة بأن أُذَكِّرَكم بما قام به سلفنا - رحمهم الله - من جهاد عظيم في سبيل العربية، فقد وهبوا نفوسهم للغتهم و آدابها ، ونقّحوها ، ووضعوا قواعدها، وأصّلوا نحوها وصرفها، حتى بلغت درجة من الكمال والصفاء، أهَّلَتْها لما قامت به من دور في بناء أعظم حضارة عرفتها الإنسانية ، فلا يخفى على مطلع ما خلَّفه ابن جِنِّي الذي كان متمكنا من اليونانية، لأنه كان روميا ، وما خلَّفه أبو علي الفارسي الذي كان متمكنا من الفارسية من تراث عظيم في العربية ، مع أن الفارسية والرومية كانتا أزهى لغتين في زمانهما بعد العربية ، وكذلك كان شأن الكثير من سلف هذه الأمة .
ثم هناك الكثير من العلماء والأئمة الذين يُروَى عنهم ما يدل على حبهم للعربية وإعجابهم بعبقريتها ، وشعورهم بفضلها ومكانتها ، وإيجابهم تعلَّمَها لفهم الكتاب والسنة وعلومهما .
فقد ذكرت الكتب - بهذا الصدد - القولة التاريخية الخالدة التي قالها أبو الريحان البيروني : ( لئن أُشْتَم باللغة العربية خير من أن أُمْدَح بالفارسية ) اسمعوا هذه القولة مرة أخرى : لئن أُشْتَم بالعربية خير من أن أُمدَح بالفارسية . والبيروني هو خير عبقرية تفتق عنها قلب الحضارة الإسلامية بل الإنسانية ، وأكبر عقلية عرفها التاريخ في كل عصوره ، على حد تعبير المستشرق الألماني ساخو .
وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - :
" أما بعد فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية ، وأعربوا القرآن فإنه عربي .. ، اسمعوا هذا القول - أيضا - مرة أخرى : " أما بعد ! فتفقهوا في السنة ، وتفقهوا في العربية ، وأعربوا القرآن فإنه عربي " ، وأيضاً قال :
" تعلموا العربية فإنها من دينكم " .
عبدالرحيم : جزاك الله خيرا أخي عبدَ العزيز وبارك في علمك وأدبك ، وقد ذكَّرني قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ذَكَرتَه فى حديثك بشروط العلماء التي اشترطوها لمن يقوم بتفسير القرآن الكريم ، فهناك صلة كبيرة بين العربية وبين التفسير : فيقول السيوطي رحمه الله :
" لا شك أن علم اللغة من الدين ، لأنه من فروض الكفايات، وبه تعرف معاني ألفاظ القرآن الكريم والسنة " ، ويقول أيضا ( وهو يتحدث عن الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدى لتفسير القرآن الكريم ) :
" يجوز تفسير القرآن الكريم لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج إليها المفسر ، وهي خمسة عشر علما :
أحدها : اللغة ، لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسـب الوضع .
الثاني : النحو ، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره .
الثالث : التصريف ، لأنه به تعرف الأبنية والصيغ.
ويروى عن الإمام مالك بن أنس أنه قال :
" لا أُوتٰى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا “ ..
ويروى عن مجاهد أنه قال :
" لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب " .
وقال ابن تيمية - رحمه الله - :
" إن اللغة العربية من الدين ، ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب “ .
عبد المحسن : جزاك الله خيرا أخي عبدَ الرحيم وزادك علما وتوفيقا وفضلا ، فقد أحسنتَ إذ ذكرتَ الصلة بين العربية وبين التفسير ، وهناك أيضا صلة بين العربية والفقه وأصوله ، فيقول بعض كبار العلماء وهو يبين دور العربية في معرفة دلالات الألفاظ ، يقول :
" أما ما منه استمداد علم أصول الفقه ، فعلم الكلام ، وعلم العربية والأحكام الشرعية . . فأما علم العربية فلتوقف معرفة دلالات الأدلة اللفظية من الكتاب والسنة، وأقوال أهل الحل والعقد من الأمة على معرفة موضوعاتها من جهة الحقيقة والمجاز والعموم والخصوص والإطلاق وغيره مما لا يعرف في غير علم العربية".
ويقول فقيه آخر :
" إن علم الحلال والحرام الذي به صلاح الدنيا والأخرى مستمد من علم أصول الفقه وعلم العربية ، فأما العربية ، فلأن أدلته - من الكتاب والسنة - عربية وحينئذ يتوقف فهم تلك الأدلة على فهمها، والعلم بمدلولها على علمها، وفي هذا الصدد تذكر الكتب قصة الكسائي مع الفقيه أبي يوسف رحمه الله صاحب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - التي وقعت أمام الخليفة هارون الرشيد، ومفاد القصة أن أبا يوسف كان يُغضِب الكسائي كثيرا بالتقليل من شأن العربية ، فأراد الكسائي أن يبين لأبي يوسف أهميةَ العربية في الفقه الذي هو مجالُ أبي يوسف ، فقال الكسائي لأبي يوسف ما رأيك يا أبا يوسف في رجلين قال أحدهما : ( أنا قاتلُ غلامِك ) بإضافة ( قاتل ) إلى ( الغلام ) وقال لك الآخر : ( أنا قاتلٌ غلامَك ) بتنوين ( قاتل ) ونصب ( الغلام ) به ، أيهما كنت تقتصّ منه ، فقال أبو يوسف : " من كليهما " ، فقال له الكسائي : أخطأتَ ! القاتل هو الأول ، أما الثاني فإنه يتوعد ولم يقتل بعد ، هنالك سلم أبويوسف للكسائي بصواب رأيه وصحة قوله فيما يدعو إليه من البراعة في العربية في مجال الفقه والفتيا ، أيضا ، وزادته الحادثة علما على علم ويقينا على يقين بأهمية اللغة العربية .
عبدالرحمن: جزاكم الله خيرا جميعا ، وزادكم علما وتوفيقا وفضلا، فقد أقنعتموني بأحاديثكم القيمة بأهمية العربية، وسأبذل قصارى جهدي الآن في تعلم العربية وإتقانها ، ولكن بقي عندي إشكال وهو أننا نحن طلاب المدراس نقضي ثماني أو عشر سنوات في المدارس ، ومعظم كتبنا الدراسية في العربية ، مع ذلك لا نستطيع أن نتكلم بطلاقة في العربية أو أن نكتب سطورًا صحيحة فيها، وبالعكس من ذاك نرى طلابا صغارا يَدْرُسُون في المدارس الإنجليزية . فيقدرون خلال سنة أو سنتين - على الأكثر – على أن يتقنوا الإنجليزية نطقا وكتابة ، فما سبب عجزنا وقدرتهم ؟!
عبد العزيز : نحمد الله الذي وفقك لفهم أهمية اللغة العربية ، ونسأله أن يثبتك على ذلك ، أما قولك إن طلاب المدارس لا يقدرون على العربية نطقا وكتابة . فسبب ذلك أن المدارس في الهند لا تعتني بالناحية العملية والتمرينات والتطبيقات الفعلية لقواعد العربية ، إنها تُدَرِّس العربية والنحو والصرف واللغة كأفكار ونظريات . . . ولكن جامعتنا - دار العلوم حیدرآباد - والحمد الله - تعتني بالجانب التدريبي أيضا ، فتعقد لجنةُ الشيخ الندوي العربية حفلات أسبوعية يخطب فيها الطلاب بالعربية، ويتناقشون ويتباحثون حول موضوعات مختلفة، وهذا الذي تراه من قدرتنا على العربية نطقا . . . يرجع فضل ذلك - بعد الله تعالى - إلى : " لجنة الشيخ الندوي العربية " التي تتولى إقامة الحفلات والمسابقات العربية . وهنا ينبغي لنا أن ندعو الله سبحانه للمسئولين عن جامعتنا أن يجزيهم خير الجزاء ، فقد وفروا لنا فرصة مباركة لتعلم العربية والبراعة فيها ، وأدعوك إلى أن تلتحق العام القادم بجامعتنا لكي تستفيد من الجو العربي الموجود بين طلابها .
عبدالرحمان : أشكرك يا أخي عبدالعزيز شكرا جزيلا ، فقد أفدتني كثيرا، وزرعت في قلبي حب العربية ، وسأرجو من والدي أن يلحقني العام القادم بهذه الجامعة العريقة، حتى أتعلم العربية وأتمكن منها نطقا وخطابة وكتابة .
عبدالعزيز : أخي عبدالرحمن ! لا شكر على الواجب ، فقد قمت بواجبي، وأحمد الله الذي وفقنا لحل بعض إشكالاتك نحو العربية .
أيها الإخوة ! قبل أن ينفض هذا المجلس تعالوا نعاهد الله أن نهب جميع قدراتنا لهذه اللغة القرآنية الكريمة ونظل خادمين لها مدى حياتنا ، ولا نقصر في ذلك أيما تقصير ، ونرد على أعداء العربية ردا بليغا ، الذين يتهمون العربية بالفقر وعجزها عن تلبية مستحدثات العصر الحديث، ومواكبة التطور العلمي الهائل . ولله در الشاعر العربي حافظ ابراهيم الذي قال على لسان حال العربية
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
و ناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بِعُقْم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية
و ما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
و تنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
وهل تعرفون يا إخواني . لماذا يُرَكِّزُ الأعداء على إضعاف العربية الفصحى والقضاء عليها، لأن القضاء على العربية معناه انقطاع صلة المسلمين بلغة القرآن الكريم ، ومعنى انقطاع الصلة بلغة القرآن انقطاع الصلة بالدين والعقيدة والتراث ، فقد آن الأوان أن نفضح خطط الأعداء ، ونكشف عن نواياهم الخبيثة ، ونثبت للعالم أن هذه اللغة لغة ثرية غنية باقية خالدة ، لأنها لغة القرآن الكريم الذي وعد الله بحفظه إلى قيام الساعة .
أيها الإخوة الأفاضل ! لعل خير ما نختم به هذا الحوار كلام ذكره أبو منصور الثعالبي ( ٣٥٠ - ٤٢٩) ، يقول في كتابه : " فقه اللغة " :
" من أحب الله تعالى ، أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ، ومن أحب الرسول العربي، أحب العرب ، ومن أحب العرب ، أحب العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ، ومن أحب العربية عني بها وثابرعليها ، و صرف همته إليها ، ومن هداه الله للإسلام ، وشرح صدره للإيمان ، وآتاه حسن سريرة فيه ، اعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم خير الرسل ، والإسلام خير الملل ، والعرب خير الأمم ، والعربية خير اللغات والألسنة ، والإقبال على تفهمها من الديانة ، إذ هي أداة العلم ، ومفتاح التفقه في الدين ، وسبب إصلاح المعاش والمعاد “ .
فمن أجل هذا .. فإن المسلمين مهما اختلفت جنسياتهم ، وتعددت ألسنتهم وأحوالهم ، فإنهم أمة واحدة ، يدينون بالإسلام ، ويتكلمون بالعربية ، وإن لسان حال من لا يتكلم العربية منهم يقول : " وددت لو كنت عربيا لكنت أقرب إلى الإسلام من قربي هذا " ، لأن العروبة لا تعني عند الإنسان المسلم عروبة الجنس أو القومية أبدا ، وإنما هي عروبة اللغة التي ارتضاها الرب عز وجل لسانا لخلقه منذ الأزل ، مثلما ارتضى الاسلام للعالمين دينا . . وبغير هذا فلا يمكن أن نكون نحن المسلمين أمة وسطا شهداء على الناس جميعا نبلغهم رسالة ربنا الواحد الأوحد ، ونكون سببا إلى هدايتهم إلى صراط الله العزيز الحميد ، كما لا يمكن أن يكون الرسول علينا شهيدا قرير العين يباهي بنا الأمم يوم القيامة .
وأخيرا ندعو الله سبحانه أن يلهمنا الغيرة على عرض عربيتنا وشرفها وكرامتها، ووفقنا لخدمتها خدمة الأبناء البارين السعداء .
عبد الرحمان ، عبد الرحيم، عبد المحسن : آمين . . آمين . . يا رب العالمين.
عبد العزيز : والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . و إلى اللقاء .. !
___
(١) عَمِلَ كاتب المقال - نحو ثلاثة عقود من الزمن - مدرسا بالجامعة الإسلامية دارالعلوم/ حيدرآباد، الهند، كما قام برئاسة تحرير مجلة: " الصحوة الإسلامية " - التي كانت تصدر عنها - مدة ٢٧ سنة، وكانت الفترة التي قضاها الكاتب في رحاب الجامعة من أخصب فترات حياته، وأكثرها تفرغا للأعمال الصحفية والأدبية والتأليفية والكتابات العربية . .
و يا سقى الله تلك الأيام !
( الأربعاء : ٣٠ ربيع الآخر ١٤٤٥ھ - ١٥ نوفمبر ٢٠٢٣م )
تعليقات
إرسال تعليق