الصحافة في «رؤيا » الرافعي

 على مائدة العلم والأدب

الصحافة في «رؤيا » الرافعي


محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

قبل أن يقول الأوروبيون : " صاحبة الجلالة الصحافة " .. ، كان قال المأمون قبل مئات السنين : " الكُتّاب ملوك على الناس " ..
ونظرا لجليل مكانة الصحافة وبالغ تأثيرها، جعل شوقي :" الصحافة " آيةَ الزمان :
لكل زمان مضى آية
وآية هذا الزمان الصحف

الحقيقة أن الصحافة سلاح ذو حدين .. إن استعمل في الخير كان نفعه عظيما، والعكس صحيح .. !

* * *
مصطفى صادق الرافعي ( ١٢٩٨ ، ١٣٥٦ھ - ١٨٨٠ ، ١٩٣٧م ) كاتب مصري معروف، لُقِّب بـ : " جاحظ القرن العشرين " ، كما وُصِف بـ :" حجة العرب " و :" إمام الأدب " و :" نبي الكلمات " و ما إلى ذلك من الصفات . . ، ولا مبالغة - عندي - في ذلك . . . خاصة إذا ما وضعنا :" أسلوب الرافعي "بعين الاعتبار .. ، فأسلوبه أسلوب فذ قوي عربي مبين، لا يستسيغه ولا يتذوقه، ولا يستعذب طعمه، ولا يستسيغ مذاقه، ولا يدرك جماله الفني، ودقته المعنوية، وعمقه المضموني، وصياغته الأدبية العالية، إلا من أوتي ذوقًا بيانيًا عربيًا خالصًا، وسليقة عربية طبيعية، وحظًا وافرًا من علوم العربية وخصائصها .
صاحب السطور معجب جدا بأسلوب الرافعي، وقرأ معظم كتبه، وخاصة كتابه الشهير بل الأشهر :" وحي القلم " ، فقد أعاد قراءته مرات، وكل مقال من محتويات الكتاب - بأجزائه الثلاثة - له نكهته الخاصة، وطعمه الفريد، وسبب لإنشائه .
الصحافة كلما تمت نقصت
مادة حديثي اليوم مقال الجزء الثالث - من : وحي القلم - الذي عنوانه : " صعاليك الصحافة " ، وقد بين الرافعي سبب كتابة هذا المقال قائلا :
" لما ظهر كتابي ( وحي القلم ) ، حملت منه إلى فضلاء كتابنا في دور الصحف والمجلات، أهديه إليهم ليقرءوه ويكتبوا عنه، وكنت في طوافي على دور الصحف والمجلات أحس في كل منها سؤالا يسألني به المكان : لماذا لم تجىء ؟ فإني في ابتداء أمري كنت نزعت إلى العمل في الصحافة، وأنا يومئذ متعلم ريّض ومتأدب ناشىء، ولكن أبي رحمه الله ردني عن ذلك، ووجهني في سبيلي هذه والحمد لله، فلو أنني نشأت صحافيا لكنت الآن كبعض الحروف المكسورة في الطبع " .
ومضى الرافعي يتحدث عن الصحافة .. عن نواحيها السلبية - في نظره - كثيرا ... وجوانبها الإيجابية قليلا .. متناولا رجالها بالهمز واللمز والطعن والجرح بكلمات خفيفة أو ثقيلة.. مكنية قليلا .. صريحة كثيرا ..
والرافعي إذا انتقد أحدا .. فالأمان والحفيظ .. ، والويل كل الويل لمن ينتقده .. و - عموما - لا اعتدال عنده في الذم والجرح ... فكثيرا ما يفقد رشده ويتجاوز الحدود إذا ما تناول أحدا بالنقد .. فنقد بذيء مبتذل .. بل سب مقذع يكاد يكون من قبيل " تحت السرة " .. ، فهو نعم الأديب إذا كان سليم اللسان نزيه الكلام ..
عفوا .. طال التمهيد .. فلندخل في صميم الموضوع ..
بدأ الرافعي كلامه عن الصحافة العربية بذكر ما كان يستغربه منها .. ، يقول :
" للصحافة العربية شأن عجيب، فهي كلما تمّت نقصت، وكلما نقصت تمت " .
ثم يشرح معنى:" التمام " و :" النقص " في الصحافة قائلا :
" إذ كان مدار الأمر فيها على اعتبار أكثر من يقرؤونها أنصاف قراء أو أنصاف أميين، وهي بهذا كالطريقة لتعليم القراءة الاجتماعية أو السياسية أو الأدبية، فتمامها بمراعاة قواعد النقص في القارىء .. وما بد أن تتقيد بأوهام الجماهير أكثر مما تتقيد بحقيقة نفسها، فهي معه كالزوجة التي لم تلد بعد، لها من رجُلها من يأمرها ويجعلها في حكمه وهواه، وليس لها من أبنائها من تأمرهم وتجعلهم في طاعتها ورأيها وأدبها، ثم هي عمل الساعة واليوم، فما أبعدها من حقيقة الأدب الصحيح، إذ ينظر فيه إلى الوقت الدائم لا إلى الوقت الغابر، ويراد به معنى الخلود لا معنى النسيان " .
الصحافة وجنايتها على النبوغ
و استطرد الرافعي يتناول :" الصحافة " بكشف عوارها - عنده هو - وفضح سوءاتها وتعداد معايبها ، فيرميها بكونها قاضية على النبوغ .. بل أكبر قاتل له .. ، يقول :
" ولا يقتل النبوغ شيء كالعمل في هذه الصحافة بطريقتها، فإن أساس النبوغ ( ما يجب كما يجب ) ، ودأبه العمق والتغلغل في أسرار الأشياء وإخراج الثمرة الصغيرة من مثل الشجرة الكبيرة بعمل طويل دقيق، أما هي فأساسها ( ما يمكن كما يمكن ) ، ودأبها السرعة والتصفح والإلمام وصناعة كصناعة العنوان لا غير . . " .
يبدو الرافعي جد غضبان ثائرٍ على الصحافة ورجالها من رؤساء التحرير والعاملين فيها، ولعل ذلك لِما يكون قد قاسى منها ما آلمه وجرح كبرياءه، فلطالما اندلعت حرب بل حروب بينه وبين معاصريه من الأدباء والكتاب عبر :" الصحافة " ..
فأراد بهذا المقال : ( صعاليك الصحافة ) - فيما أظن - التشفي من الصحافة ورجالها، و التنفيس عن نفسه .. ، أو الانتقام مما ساءه وآذاه من الصحافة والمشتغلين بها . . . أو أراد التنبيه إلى جوانب الصحافة السلبية حتى تتجنب، والإرشاد إلى ما يجب - عنده - أن تأخذها الصحافة بعين الاعتبار لتؤدي دورها على الوجه المطلوب .
وكان الرافعي ذكيا لبقا حاذقا، إذ صاد العصفورين بحجر واحد، فلم يتعرض للصحافة ورجالها تعرضا مباشرا، فإن ذلك قد يعرضه لما لا تحمد عقباه، فاتخذ لذلك طريقة أدبية طريفة، سهلت له مهمته .
وهي أنه - الرافعي - وضع بناءَ ما جاء في هذا المقال على " رؤيا وهمية " . . ، و"الرؤيا " في حد ذاتها شيء غير واقعي .. يتعلق بالمنام لا باليقظة ...
و ما بالك إذا كانت الرؤيا نفسها . . لا تكون رؤيا حقيقية يراها الرائي في المنام .. بل تكون بِنت الخيال ومن نَسجِ الفكر .. تخيلها صاحبها - في يقظته - لمآرب أو أغراض يستهدفها . . كما هي قصة رؤيا صاحبنا الرافعي..
فما هي الرؤيا الرافعية - الوهمية - التي أقام عليها صاحبها مبنى هذا المقال ..؟
هذا ما نريد أن نتعرض له - في مقالنا هذا - من إلقاء نظرة على بعض ما تشتمل عليه الرؤيا من الكلام عن مختلف جوانب الصحافة، مكتفين بأهم ما جاء في الرؤيا من تعليقات على الصحافة وتوجيهات لها وللعاملين فيها .
رؤيا الرافعي
فهيا بنا إلى : " رؤيا الرافعي " التمثيلية - إذا - صح التعبير - ، يقول :
" ولما فرغت من طوافي على دور الصحف، جاءت هي تطوف بي في نومي، فرأيتني ذات ليلة أدخل إحداها لأهدي ( وحي القلم ) إلى الأديب المتخصص فيها للكتابة الأدبية، ودلوني عليه، فإذا رجل مربوع مشوّه الخلق، صغير الرأس دقيق العنق جاحظ العينين، تدوران في محجريهما دورة وحشية، كأنما رعبته الحياة منذ كان جنينا في بطن أمه، لأنه خلق للإحساس والوصف، أو كأنما ركب فيه هذا النظر الساخر ليرى أكثر مما يرى غيره من أسرار السخرية، فينبغ في فنونها، أو هو قد خلق بهاتين العينين الجاحظتين، دلالة عليه من القدرة الإلهية بأنه رجل فذ أرسل لتدقيق النظر .
" وقال الذي عرّفني به : حضرته عمرو أفندي الجاحظ .. وهو أديب الجريدة " .
ففوجىء صاحبنا الرافعي بتواجد هذا الأديب العظيم - محررا حقيرا - في مكتب جريدة . . كيف انتهى إلى هذه النهاية المؤسفة .. وكان من أعاجيب الدنيا .. ، و جرى بينهما حديث طويل عن الصحافة وأهلها ..
وخلال الحديث يدق الجرس - مرات - يدعو الجاحظ - إلى رئيس التحرير، فينهض إليه .. فيسأله الرافعي عما جرى بينهما من الأحاديث ...فيخبره بذلك ...
والحقيقة - كما يعرف القراء - أن كل ما جاء في هذا المقال ( صعاليك الصحافة ) من إنتاج عبقرية الرافعي .. ولكنه نحل - نحلا أدبيا - الجاحظَ، الكثيرَ مما جاء في هذا المقال ..
فننقل مقتطفات - من المقال/ الرؤيا - دون أن نعزوها إلى الجاحظ كما فعل الرافعي .. بل نوردها آراء شخصية - للرافعي - عن الصحافة ورجالها .
يقول الرافعي - كاشفا الغطاء عن تفكير بعض رؤساء تحرير المجلات ونظرتهم التجارية المحضة العارية عن أي جد ونزاهة وشعور بالمسؤلية الكتابية - :
نصف التمويه رذيلة
" عند بعض رؤساء التحرير : إن نصف التمويه رذيلة ؟ فإن نصفه الآخر يدل على أنه تمويه، و إن سمو الكتابة انحطاط فصيح، لأن القراء في هذا العهد لا يخرجون من حفظ القرآن والحديث ودراسة كتب العلماء والفصحاء، بل من الروايات والمجلات الهزلية، وحفظ القرآن والحديث وكلام العلماء يضع في النفس قانون النفس، ويجعل معانيها مهيأة بالطبيعة للاستجابة لتلك المعاني الكبيرة في الدين والفضيلة والمجد والقوة، ولكن ماذا تصنع الروايات والمجلات وصور الممثلات المغنيات وخبر الطالب فلان والطالبة فلانة والمسارح والملاهي ؟ ( بتعديل يسير ) .
من هو كاتب الصحافة الحقيقي ؟
ومضى الرافعي يُشَرِّح الصحافة الجديدة .. وكيف آلت إلى ما آلت إليه من الرداءة والانحطاط، إلى أن أصبحت عارية من أي معنى من معاني النزاهة والسمو الخلقي والشعور بالمسؤلية، حتى صار مفهوم كاتب الصحافة الحقيقي - عند بعض أصحاب المجلات - ما يلي :
" إن الكاتب الذي لا يسائل نفسه ما يقال عني في التاريخ ، هو كاتب الصحافة الحقيقي، لأن القروش هي القروش .. والتاريخ هو التاريخ، ومطبعة الصحيفة الناجحة هي بنت خالة مطبعة البنك الأهلي، لا يتحقق نسَبُ ما بينهما إلا في إخراج الورق الذي يصرف كله ولا منه شيء !
إنهم يريدون إظهار المخازي مكتوبة، كحوادث الفجور والسرقة والقتل والعشق وغيرها، يزعمون أنها أخبار تُروى وتقص للحكاية أو العبرة، والحقيقة أنها أخبارهم إلى أعصاب القراء " . ( بتعديل يسير ) .

ومضى الرافعي يتحدث عن مضحكات الصحافة وعجائبها وتلفيقاتها .. وكيف تَقْلِب الأمور رأسا على عقب، وتجعل الحقائق أكاذيب، والأكاذيب حقائق لا تكاد تُنكر، والسماء أرضا، والأرض سماء . . . ، يقول :
ما هي بلاغة الصحافة ؟
" إن الخلابة ( أي الخديعة برقيق الحديث ) والمواربة وتقليب المنطق هي كل البلاغة في الصحافة الحديثة، ولهي كقلب الأعيان في معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، فكما انقلبت العصا حية تسعى، وهي عصا وهي من الخشب، فكذا تنقلب الحادثة في معجزات الصحافة إذا تعاطاها الكاتب البليغ بالفطنة العجيبة والمنطق الملوَّن والمعرفة بأساليب السياسة، فتكون للتهويل، وهي في ذاتها اطمئنان، وللتهمة و هي في نفسها براءة، وللجناية وهي في معناها سلامة : ولو نفخ الصحافي الحاذق في قبضة من التراب، لاستطارت منها النار وارتفع لهبها الأحمر في دخانها الأسود .
" إن هذا المنطق الملوّن في السياسة إنما هو إتقان الحيلة على أن يصدقك الناسُ، فإن العامة وأشباه العامة لا يصدقون الصدق لنفسه، ولكن للغرض الذي يساق له، إذا كان مدار الإيمان فيهم على الإيمان والتقديس،فأذاقهم حلاوة الإيمان بالكذب، فلن يعرفوه إلا صدقا وفوق الصدق، وهم من ذات أنفسهم يقيمون البراهين العجيبة ويساعدون بها من يكذب عليهم متى أحكم الكذب، ليحققوا لأنفسهم أنهم بحثوا ونظروا و دققوا " . ( بتعديل يسير ) .
سبب انحطاط الصحافة
لماذا انحطت الصحافة وسقطت هذا السقوط المزري ؟ يقول الرافعي مبينا سبب ذلك :
" وإنما نزل بصحافتنا دون منزلتها، أنها لا تجد الشعب القارىء المميز الصحيح القراءة الصحيح التمييز،ثم هي لا تريد أن تذهب أموالها في إيجاده وتنشئته، وعمل الصحافة من الشعب عمل التيار من السفن في تحريكها وتيسير مجراها، غير أن المضحك أن تيارنا يذهب مع سفينة ويرجع مع سفينة . . .
" ولو أن الصحافة العربية وجدت الشعب قارئا مدركا مميزا معتبرا مستبصرا لما رمت بنفسها على الحكومات والأحزاب عجزا وضعفا وفسولة، ولا خرجت عن النسق الطبيعي الذي وضعت له، فإن الشعب تحكمه الحكومة، وإن الحكومة تحكمها الصحافة، فهي من ثم لسان الشعب، وإنما يقرأها القارىء ليرى كلمته مكتوبة، وشعور الفرد أن له حقا في رقابة الحكومة، وأنه جزء من حركة السياسة والاجتماع، هو الذي يوجب عليه أن يبتاع كل يوم صحيفة اليوم " .
جريدة : (الأكاذيب)
من طرائف ما يحتوي المقالُ ما نحله الرافعيُّ الجاحظَ الذي قال :
". . . لو أنني أصدرتُ صحيفة يومية لسميتها :" ( الأكاذيب ) ، فمهما أكذب على الناس، فقد صدقت في الاسم، ومهما أخطىء فلن أخطىء في وضع النفاق تحت عنوانه .
قال : ثم أخط تحت اسم الجريدة ثلاثة أسطر بالخط الثلث . . هذا نصها :
- ما هي أعزة الأذلاء ؟ هي الكذب الهازل
- ما هي قوة الضعفاء ؟ هي الكذب المكابر .
- ما هي فضيلة الكذابين ؟ هي استمرار الكذب.
قال : ثم لا يحرر في جريدتي إلا « صعاليك الصحافة » من أمثال الجاحظ، ثم أكذب على أهل المال فأمجد الفقراء العاملين، وعلى رجال الشرف فأعظم العمال المساكين، وعلى أصحاب الألقاب فأقدم الأدباء والمؤلفين ، و . . . " .
الواضح أن الرافعي ما قال ما قال - في السطور المتقدمة وهو ينحل قوله الجاحظَ - إلا لما عُرِفتْ به الصحافة من تبَنِّيْها :" الكذبَ" مبدأ ومنهجا وسياسة ومصلحة، فلا تُرَوِّج إلا الكذب، ولا تشجع إلا الكذب، فقال الرافعي ذلك في إشارة إلى الوضع السائد المعروف الذي كانت الصحافة عليه .. و في بلده خاصة .. !
الصحافة متى تقوى ..؟
بعد ما تناول الرافعي أسباب انحطاك الصحافة وضعفها، تحدث عن أسباب قوتها وازدهارها، فكتب يقول :
" ... فالصحافة لا تقوى إلا حيث يكون كل إنسان قارئا، وحيث يكون كل قارىء للصحيفة كأنه محرر فيها، فهو مشارك في الرأي لأنه واحد ممن يدور عليهم الرأي، متتبع للحوادث لأنه هو من مادتها أو هي من مادته، وهو لذلك يريد من الصحيفة حكاية الوقت وتفسير الوقت، وأن تكون له كما يكون التفكير الصحيح للمفكر، فيُلزمها الصدق ويطلب منها القوة ويلتمس فيها الهداية، وتأتي إليه في مطلع كل يوم أو مغربه كما يدخل إلى داره أحد أهله الساكنين في داره " .
فساد الذوق والأدب
في ختام المقال يرثي الرافعي ضعف اللغة وفساد الأدب قائلا :
" لا جرم فسد الذوق وفسد الأدب، وفسدت أشياء كثيرة كانت كلها صالحة، وجاءت فنون من الكتابة، ما هي إلا طبائع كتابها تعمل فيمن يقرأها عمل الطباع الحية فيمن يخالطها، ولوكان في قانون الدولة تهمة إفساد الأدب أو إفساد اللغة، لقبض على كثيرين لا يكتبون إلا صناعة لهو ومسلاة فراغ وفسادا وإفسادا، والمصيبة في هؤلاء ما يزعمون لك من أنهم يستنشطون القراء ويلهونهم، ونحن إنما نعمل في هذه النهضة لمعالجة اللهو الذي جعل نصف وجودنا السياسي عدما، ثم لملء الفراغ الذي جعل نصف حياتنا الاجتماعية بطالة " .
الأدب وحده المتروك في الصحافة
أكبر ما يغضب الرافعي على الصحافة تهاونها في :" الأدب " ، وتهوينها من شأنه، حتى صار - الأدب - المظلوم الأكبر والمتروك الأعظم في الصحافة، يقول :
" ... و الأدب وحده هو المتروك في هذه الصحافة لمن يتولاه كيف يتولاه، إذ كان أرخص ما فيها، وإنما هو أدب، لأن الأمم الحية لا بد أن يكون لها أدب، ثم هو من بعد هذا الاسم العظيم ملء فراغ لا بد أن يملأ، وصفحة الأدب وحدها هي التي تظهر في الجريدة اليومية كبقعة الصدأ على الحديد : تأكل منه ولا تعطيه شيئا " .
ويضيف أن بعض الناس يبررون ضعفهم في الأدب والبيان بأن الذوق الشعبي لا يهضم البلاغة العالية والأدب الرفيع، فهذا الأسلوب السخيف يتلاءم مع استعداد الشعب ومزاجه، يقول :
" وقد يكون الرجل في كتابته كالعامة، فإذا عبته بالركاكة والسخف والابتذال وفراغ ما يكتب، قال: هذا ما يلائم القراء .
... فمن زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، جعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب، والإغلاق والإبانة، والملحون والمعرب، كله سواء وكله بيانا .. "
أقوال أخرى - للرافعي - عن الصحافة ورجالها :
نذكر - فيما يلي - أفكارا وآراء أخرى يضمها مقال الرافعي : ( صعاليك الصحافة ) :

- « ليس يحسن بالأديب أن يعمل في الصحافة اليومية إلا إذا نضج وتم » .

- «أساس أكثر القراء ليس إلا بلادة المدارس، وسخافة الحياة، وكذب السياسة ».

- « إن الإبداع كل الإبداع في أكثر ما تكتب هذه الصحف، أن تجعل الكذب يكذب بطريقة جديدة ... وما دام المبدأ هو الكذب، فالمظهر هو الهزل، والناس في حياة قد ماتت فيها المعاني الشديدة القوية السامية، فهم يريدون الصحافة الرخيصة، واللغة الرخيصة، والقراءة الرخيصة » .

- « مقالات السياسة الكاذبة كرسائل الحب الكاذب، تقرأ فيها معان لا تكتب، ويكون في عبارتها حياء وفي ضمنها طلب ما يستحيى منه ... والحوادث عندهم على حسب الأوقات، فالأبيض أسود في الليل، والأسود أبيض في النهار ؛ ألم تر إلى فلان كيف يصنع وكيف لا يعجزه برهان وكيف يُخَرّج المعاني ؟ »

- « لقد ابتليت هذه الأمة في عهدها الأخير بحب السهولة مما أثر فيها الاحتلال وسياسته وتحمله الأعباء عنها واستهدافه دونها للخطر، فشِبْهُ العامية في لغة الصحف وفي أخبارها وفي طريقها إنما صورة من سهولة تلك الحياة، وكأنه تثبيت للضعف والخور ، وكل شىء يتحول بما تحدث له طبيعته عاليا أو نازلا، فقد تحولت السهولة من شبه العامية إلى نصف العامية في كتابة أكثر المجلات وفي رسائل طلبة المدارس، حتى لتبدو المقالة في ألفاظها ومعانيها كأنها القنفد أراد أن يأكل مأكلة صغاره، فقرض عنقودا من العنب، فألقاه في الأرض وأتربه وتمرغ فيه، ثم مشى يحمل كل حبة مرضوضة في عشرين إبرة من شوكة ».
هذه خلاصة أفكار الرافعي وآرائه عن الصحافة الحديثة والمسؤلين عنها مما جاء في مقاله :" صعاليك الصحافة " ، وهناك الكثير غير ذلك مما يحتوي المقال، فمن أراد استيعاب ذلك، فليراجع المقالَ في وحي القلم.
مما ينبغي أيضاحه أن إيرادنا لأفكار الرافعي وملاحظاته عن الصحافة ورجالها لا يعني - بالضرورة - الموافقة عليها كليا، وإنما الغرض الأساسي هو عرض آراء الرافعي فقط .. ولا شك أنها - آراء الرافعي - تبعث على التأمل وتوقظ الفكر، ويجدر العديد منها بالأخذ بعين الاعتبار والاهتمام، لأنها صدرت عن قلم أديب متميز، له جولات وصولات في ميدان الصحافة والأدب، فالأفكار الصادرة من مثل هذا الأديب الفذ لحرية بالنظر فيها، وإعطائها حقها من العناية والاهتمام .

( الجمعة : ١٨ ربيع الآخر ١٤٤٥ھ - ٣ نوفمبر ٢٠٢٣م )

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده