الملك عبد العزيز آل سعود مُحَوِّل الصحراء إلى الواحة الخضراء

 شخصيات أعجبتني ( ٢٠ )

الملك عبد العزيز آل سعود
مُحَوِّل الصحراء إلى الواحة الخضراء


محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

ذو الحجة ١٢٩٢ھ - يناير ١٨٧٦م
ربيع الأول ١٣٧٣ھ - نوفمبر ١٩٥٣م

صنائع فاق صانعها ففاقت
و غرس طاب غارسه فطابا


ملكٌ إذا ذُكِر .. ، تمثلت - في المخيّلة - شخصية ذات صفات عبقرية وشمائل فذة، أهَّلت صاحبها لأن يحتل مكانة مرموقة في صفوف الأبطال والقادة العظام، واعتبارا شامخا في العالم كله، يحترمه الجميع شاءوا أم أبوا .. !
أخو الغمرات، صاحب المغامرات ، شجاع مقدام، عادل ذكي، متقد بالفطنة والبصيرة النافذة، والكرم والإنسانية، ذو إرادة لا تضعف، وهمة لا تطاول، وعزيمة لا تفل، وضمير حي يقظ، وروح صافية، وقلب ينبض حبا ورحمة للإنسانية جمعاء .
لم يكن ملكا فقط .. بل ملك يرتبط اسمه بتأسيس دولة لها فضل على سائر الدول والحكومات ..
لأنها - إلى كونها دولةً تقيم حكم الله وتتبع شريعة المصطفى صلى الله عليه وسلم - دولةٌ أكرمها الله بشرف لا يضارعه شرف .. شرف تولي أمور الحرمين الشريفين .. وكفى بذلك شرفا وفخرا ..
فمن هنا .. تتجلى عظمة شخصية « عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود » ومكانته الفريدة بين الحكام والسلاطين . .
إن تأسيس دولة - أي دولة - في حد ذاته ليس عملا عاديا ... يعمله أي زيد أو عمرو .. أو يمارسه كل من هب ودب .. بل ذاك أمر لا يقوم به إلا أولو العزم والحزم من الرجال ...
وما بالك إذا كان المؤسس مؤسسَ دولة تضطلع بمهمة دقيقة حساسة .. مهمة إدارة شؤون بلاد الحرمين الشريفين ... مهمة دونها جميع المهام .
وتلك لعمر الله مهمة جُلّى لا يُوَفَّقُ للقيام بها إلا من يختاره الله من عباده ممن يرى فيهم من الكفاءة ما يؤهلهم للاضطلاع بحمل أعباء هذه المهمة العظمى ..
وهنا - أيضا - تكمن الإشارة إلى « خصوصية » الذين يعهد الله إليهم بشرف خدمة :" بيته " و :" مسجد نبيه " وتدبير شؤون زوارهما .
هذا . وقد ثبت واتضح للعالم أجمع أن السعودية تقوم بخدمة الحرمين الشريفين على الوجه المرضي المطلوب .. فقد أثبتت أهليتها وكفاءتها للاضطلاع بهذا الشرف، وأنها نزلت على مستوى شرف المسؤولية بصفة أدق وأتم .. ، وكُرِّمت بها عن جدارة واستحقاق .. والله أدرى بمن هو أجدر وأليق بسدانة بيته، فلا يولّيها إلا من كان على مستوى المسؤولية والكفاية والأهلية المطلوبة لخدمة بيته .

* * *

إذا أعدت قائمة بأسماء الملوك والحكام ممن تركوا بصمات واضحة - على مدى التاريخ الإسلامي كله - وقاموا بصنائع ومآثر جليلة، لا يسع كاتبَ التاريخ تجاهلُها فضلا عن إنكارها، كان اسم الملك عبد العزيز آل سعود - بلا شك - في طليعة هذه القائمة ..
وحينما أخطّ هذا وأسجله .. أسجله من باب :" حكاية الواقع " لا من :" مبتدعات الخيال" .. فعبد العزيز أحد صانعي التاريخ .. اسم لمن غيّر الظروف والأوضاع .. بل غير مجرى التاريخ في الحجاز .. فكل من له اطلاع على أحوال المنطقة قبل تولي الملك عبد العزيز زمام أمورها، يعرف جيدا أنها - الأمور - كانت مما لا يسر ولا يجدر بالذكر .. فالأوضاع الدينية والأمنية كلتاهما كانت بلغت من السوء والتدهور مبلغا لا يوصف ..
أما الأوضاع الأمنية فالعياذ بالله .. الحجاج كانوا يخافون من السفر إلى بلاد الحرمين الشريفين، فلم يكونوا يأمنون لا على أنفسهم ولا على أموالهم .. وكانوا إذا رجعوا إلى أوطانهم سالمين آمنين على حياتهم .. فكأنهم وجدوا حياة جديدة ..
ولكن لما تم تأسيس المملكة العربية السعودية - في ٢٢ جمادى الأولى ١٣٥١ھ ، ٢٣ سبتمبر ١٩٣٢م - على يد الملك عبد العزيز رحمه الله (١) بدأت الظروف والحياة تستقيم على وجهها الصحيح ، فأخذت الأوضاع الأمنية تتحول من سيء إلى حسن .. ومن حسن إلى أحسن .. ومن حسن إلى الأحسن .. ومن الأحسن إلى الأكثر حسنا .. حتى صارت المملكة يضرب بها المثل في الأمن والأمان والعافية والسلامة .. فعادت أكثر بلاد العالم أمنا وعافية مما جعل الكاتب الشهير علي الطنطاوي يقول :" ... فقد جعل ابن السعود " خور حمار " وهو أفظع مكان في البادية كلها آمن من ميدان النجم في باريس " (٢) . وقال في ذكرياته :" .. أن الصحراء في عهد العزيز آمن من شارع الشانزليزيه في باريس، وأزيد الآن آمن من الشارع الخامس في نيويارك، وهذا حق واقع لا مبالغة أديب " (٣) .

* * *

الحقيقة أن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله كان قيضه الله تعالى للمنطقة حينما أراد بها خيرا .. ولا شك أنه كان نعمة من نعم الله تعالى على المنطقة وبركةً لها ...
فقبله .. كانت تعيش المنطقة :" فوضى شاملة " بكل ما للكلمة من معنى .. فوضى سياسية ودينية .. فنهض هذا الرجل الشهم الموفق من الله .. فوحد المنطقة باسم :" المملكة العربية السعودية " وجعل دستورها :" الكتاب والسنة" .. الذي ما جُعل دستورا لدولة وطبق فيها بدقة .. إلا وكان التوفيق حليفها والنجاح قرينها .. والسعادة والرخاء حظها .
وهذا هو سر نجاح المملكة وتقدمها وازدهارها ..
فهذا التمسك بالكتاب والسنة جعل المملكة واحة أمن وأمان .. قل نظيرها في بلدان العالم الأخرى .
كما كان من فضل الله سبحانه على المملكة أن فجر فيها أنهارا من الذهب الفياض، الذي استخدمه العاهل السعودي الباني عبد العزيز وبعده أنجاله العظام - عبر خطة محكمة منظمة دقيقة - في تحديث المملكة وترقيتها على الأسس الحضارية الحديثة .. مع المحافظة على الروح الإسلامية الأصيلة العريقة .. ، وفي تحويل المملكة من صحراء قاحلة جرداء إلى واحة خضراء .. ومن أجواف الأودية وأعماق القفر إلى مدن تضاهي أعظم مدن العالم رقيا وازدهارا .
فبفضل تلك الخطة الحكيمة والاستراتيجية المتزنة التي تبناها المؤسس المغوار البعيد النظر، وتابعه - بعده - أنجاله الكرام ... تعيش المملكة الآن أرقى نموذج حضاري وأروع مستوى من الرقي والازدهار في جميع مرافق الحياة وشعبها .
فالذي تحقق في مدن السعودية،بل في أصغر القرى الضائعة بين صخور جبال السراة و في أوديتها، ما تحقق يتعدى حدود الخيال، فهل سمعتم بحقيقة سبقت شطحات الخيال ؟ - حسب تعبير الطنطاوي - الذي صدق حينما قال : " ... والمملكة العربية السعودية التي كانت ( لو لا عبقرية منشئها وشخصيته ) خفيفة في ميزان الدول، حتى صارت من أثقلها وزنا وأعلاها صوتا وأرجحها رأيا، وصارت مثابة لعظماء الأمم من الشرق ومن الغرب، كل يتلقى - كما قال نيكسن هنا في كلمة له - يتلقى الحكمة ويتلقى المال : إما ريالات ودولارات، وإما ذهبا أسود اسمه النفط، فكانت كما قال الأول :

نشد أحمالنا إلى ملك
نأخذ من ماله ومن أدبه

لقد وضع عبد العزيز الأساس وأرسى الدعائم، وجاء أولاده يعلون الجدران، ويقوون الأركان، ويجملون البنيان، مهتدين إن شاء الله بهدي القرآن " . (٤)

* * *
لقد كان عبد العزيز زعيما محترما عربيا وإسلاميا ودوليا، يُستَقبَل بحفاوة وترحيب وحب وتقدير - أينما حل وارتحل - لعظمة شخصيته وثقلها إقليميا ودوليا، والأبيات التالية - التي كانت قيلت لدى قدوم الملك عبد العزيز إلى مصر - لخير دليل على الشعبية التي كان يحظى بها لدى الخاصة والعامة :

ملائكة تلك أم أنبياء ؟
أم ابن سعود إلى مصر جاء ؟
فأهلا و سهلا بأكرم ضيف
و يا مرحبا بالسنا والسناء!

ومن تلك القصيدة - أيضا - :

نيويورك من مكة ذرة
و لندن من طيبة كالهباء
فمن طيبة شع نور الهدى
ومن لندن شاع سفك الدماء

لقد أصاب الشاعر المحز .. وإذا قلنا إن أوربا ما تحضرت إلا بما اقتبست من حضارة هذا الوادي غير ذي الزرع .. فهي - أوربا - مدينة في علمها ونورها - اللذين تستعلي بهما على غيرها - لِحَضارة *:"بادية / مركز الإسلام "* و *:" صحراء العرب "* ... إذا قلنا ذلك لَمَا بالغنا ولا تزيدنا ... وما أجمل وأروع وأصح ما قال الرافعي :
« إن ههنا دنيا الصحراء ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوربا وأمريكا، فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنور متمم لما يعمله نور الشمس والقمر » . (٥) .
إي والله ! إنها لحقيقة كالشمس والقمر أن لهذه « الصحراء العربية الإسلامية » دورا لا يستهان به فيما تعيشه أوربا من المدنية والحضارة والعلم والثقافة،فلو لا مكة والمدينة لما كانت باريس و لا لندن و نيورك وغيرها من المدن التي تعد اليوم من حواضر العالم المتحضر المعاصر ...الأمر الذي يعترف به المنصفون من القوم أنفسهم ..وهنا نكتفي بشهادة واحدة من شهاداتهم، تقول الكاتبة الألمانية الدكتور سيجريد هونكة (sigrid hunke) مؤلفة : " شمس العرب تسطع على الغرب " :
" إن أوربا تدين للعرب وللحضارة العربية .. وأن الدَّين الذي في عنق أوربا وسائر القارات للعرب كبير جدا " .

* * *

أما واسطة العقد وبيت القصيد من هذه القصة الرائعة الحضارية التي دبجها يراع الوالد عبد العزيز وأحسن خطوطها وزادها حسنا وبهاء أنجاله الكرام .. أو قل من هذه الملحمة الحضارية الكبرى في صحراء العرب القاحلة، التي كان الوالد البطل عبد العزيز قائدَها، وأبناؤها البواسل جنودَها . .
لا شك أن بيت القصيد من هذه الحكاية الحضارية الممتعة : الحرمان الشريفان والمدينتان المقدستان..
فقد ظلا وظلتا - الحرمان والمدينتان - على رأس أولويات أولي الأمر من لدن عصر عبد العزيز الباني وإلى العهد السلماني.
فما حظي ويحظى به الحرمان الشريفان ومدينتاهما من الرعاية البالغة والعناية الخاصة لا يخفى على أحد ...
والحقيقة أن الكلام في هذه الناحية يطول ويطول . . والحديث ذو شجون .. والكل على علم بذلك .. فلا حاجة إلى إعادة ذكر ما الناس عالمون به .
على أنه لا بد من الإشارة إلى أن التسهيلات الجبارة والمشاريع العملاقة التي نفذت في الحرمين الشريفين والتي تصب كلها في خدمة حجاج بيت الله الحرام وزوار المسجد النبوي الشريف ...
إن كل ذلك يفوق حد التصور والخيال .. فلا يمكن لأحد أن يقَدّر ذلك بخياله مهما كان حادا وقويا وخصبا ... إلا إذا رآه بأم عينيه وعايشه بنفسه وقضى فترة في ظلاله ..
إن أكبر معارض للمملكة لا يسعه إلا الاعتراف - النابع من قلبه - بالإنجازات السعودية المحيرة للعقول ..
و والله لو لا الحب الصادق للحرمين الشريفين و الحرص البالغ على خدمتهما، والهم المتواصل والسهر الدائم على تقديم أفضل الخدمات لكل من يزورهما ... لما رأى العالم هذا التناهي والتفاني من تسخير وتجنيد كل ما تيسر وتوفر وأمكن من الطاقة البشرية و التكنولوجيا الحديثة لخدمة الحرمين وقاصديهما .

* * *

وهناك ناحية أخرى هامة من نواحي حياة الملك عبد العزيز، تسمو بمكانته بل وتجعله شامة بين كثير من نظرائه من الملوك والحكام المسلمين، تلكم ناحية الصلاح والتدين الخالص، والاهتمام البالغ بالعبادات، فكان رحمه الله حريصا على أداء الصلوات مع الجماعة، يلتزم الأذكار، ويلاصق القرآن الكريم سماعا وتلاوة، فكان رحمه الله يصطحب - دائما - قارئا مجودا، يطلب منه التلاوة في أوقات معينة من الليل والنهار، و كذلك يؤكد على أبنائه المواظبة على الصلاة في أوقاتها، ويؤدبهم إذا رأى منهم تساهلا في أدائها، خَيِّرا عادلا يحب أهل العلم والدين، ويحترمهم، ويقربهم، ويجعلهم أصحابه وبطانته، ويتبع حكمهم ما داموا يتكلمون بلسان الشرع، ويحكمون بحكم الله : { ومن أحسن حكما من الله لقوم يوقنون } ، وينافح عن الدين، ولا يتهاون في أحكام الشريعة، فكان يضرب بيد من حديد كل من يتجرأ على تشويه صورة الإسلام .
وكذلك:" الناحية الإنسانية " مما تميز به الملك عبد العزيز من الخصال .. فقد كان يحمل في صدره قلبا ينبض بالرحمة والشفقة للإنسانية عامة والأمة المسلمة خاصة ...
" عاهِدُوني على الإخلاص لله، والعمل على تقديم السعادة والرخاء للمسلمين ".
عبارة لطالما رددها الملك عبد العزيز .. قالها وفعلها، فكان يمسح الدموع، ويراعي العواطف، ويجبر الخواطر، ويخفف على المصابين نكباتهم .
رحمه الله .. فقد كان نعم الإنسان .. ونعم الملك .. ونعم المسلم .. !



الهوامش والمراجع
(١) لقد كان استرداد الملك عبد العزيز الرياض في الخامس من شوال ١٣١٩ھ - ١٩٠٢م ، هو اللبنة الأولى في تأسيس المملكة العربية السعودية، في حين تعود جذور هذا التأسيس إلى أكثر من مئتين واثنين وستين عاما، عندما تم اللقاء التاريخي بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله عام ١١٥٧ھ - ١٧٤٤م ، فقامت بذلك الدولة السعودية الأولى على أساس الالتزام بمبادىء العقيدة الإسلامية ، ثم جاءت الدولة السعودية الثانية التي سارت على الأسس والمبادىء ذاتها . [ انظروا تقديم : " يوميات الرياض" .. من مذكرات أحمد علي بن أسد الله الكاظمي : مساعد مدير مدرسة الأمراء بالرياض .
دارة الملك عبد العزيز ، ١٤١٩ھ ۔ الرياض، السعودية ] .

يذكر أنه تم توحيد جميع اراضي مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها في كيان واحد تحت اسم :" المملكة العربية السعودية" في ٢٢ جمادى الأولى ١٣٥١ھ - ٢٣ سبتمبر ١٩٣٢م .
(٢) علي الطنطاوي : من نفحات الحرم
ص ١١١، اتحاد بك دبو، ديوبند، الهند.
(٣) علي الطنطاوي: ذكريات علي الطنطاوي ٤/ ٢٤٤ .
الطبعة الثانية ١٤٠٩ھ - ١٩٨٩م ، دار المنارة للنشر، جدة ، السعودية .
(٤) أيضا : ٣/ ١٢٣، ١٢٤ .
(٥) مصطفى صادق الرافعي : وحي القلم ٣/ ٦ .
دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

(الخميس : ٣ ربيع الآخر ١٤٤٥ھ - ١٩ أكتوبر ٢٠٢٣م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده