نظرات في : [ الناظرة ]

على مائدة العلم والأدب

نظرات في : [ الناظرة ]


محمد نعمان الدين الندوي

لكناؤ، الهند


جسم الإنسان - في ظاهره وداخله - مركب من أعضاء، وكل واحد منها، له أهميته وقيمته وعمله المنوط به، ولا يمكن - بحال من الأحوال - أن يرضى الإنسان بالتنازل عن أي عضو من أعضائه .. مقابل أي ثمن مُغْر .. !

فكل عضو في حد ذاته درة يتيمة وياقوتة كريمة وجوهرة نفيسة لا تقدر ولا تصور قيمتها، وصاحبها - الإنسان - لا يفكر - مجرد التفكير - في بيعها بأي ثمن مهما كان خياليا ..

وبعض هذه الأعضاء تسمى : " أعضاء رئيسة " .. مثل القلب أو الدماغ أو الكلية أو الرئة ..، فإذا حدث - ولا قدر الله - خلل أو عطل في أيٍّ منها، تعرضت حياة الإنسان للخطر .

ولا يعنينا هنا إلا الحديث في عضو واحد من أعضاء الإنسان، وهذا العضو وإن لم يُعَدّ من الأعضاء الرئيسة، ولكنه أجملُها، و من أعظمها خطورة وقيمة وأثرا في حياة الإنسان.

فمعلوم أن أجمل الأحياء الإنسانُ { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وأجمل ما في الإنسان وجهه، وأجمل ما في الوجه : " العين " .. وقديما قال ابن الرومي :


وأحسن ما في الوجوه العيون

وأشبه   شيء   بها   النرجس


 فعلى جمال العين يتوقف جمال الوجه، فإذا كان هناك ما يؤثر على جمال العين، أثر على جمال الوجه وحسنِه وبهائه . فجمال الوجه بجمال العين، والعكس صحيح .

وبغض النظر عن هذه الناحية الجمالية للعين .. هناك ناحية أخرى تكمن فيها القيمة العظمى والأهمية الكبرى لهذه الحاسة  المهمة من حواس الإنسان الخمس، فقيمة العين الكبرى في بصرها، فمن فقد البصر - ولا قدر الله - فكأنه فقد لذة الحياة ومتعتها .. 

ولعظم قيمة البصر هذه .. وعد الله من حَرَمَه إياها بالجنة  :« إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر، عوضته منهما الجنة »  - البخاري .

فالإنسان المحروم نعمةَ الإبصار لفي محنة لا توصف، إنه لا يستطيع أن يرى ضياء الشمس ونور القمر وخضرة الكلأ و أمواج البحر وغيرها من المباهج ومظاهر الزينة والجمال المبثوثة في الأرض والآفاق .

و لا يستطيع رؤيةَ مَن رؤيتُهم الثواب  : الوالدان .. ، ولا رؤيةَ من رؤيتُهم تُقِرّ العينَ  : فلذاتِ أكباده، ولا رؤيةَ من رؤيتُهم تؤنس القلبَ : الأقرباء والأصدقاء وغيرهم ..

وأكبر من ذلك كله .. أنه - فاقد البصر - كلٌ على غيره في حركاته وتنقلاته ..

وكذلك لا يستطيع القراءة والكتابة .. وهذا -  عندي - خسارة الخسارات ..

ومما يتصل بهذه الخسارة .. حرمان المبتلى بحبيبتيه تلاوةَ كتاب الله نظرا .. ولكنها خسارة معوَّض عنها إن شاء الله ..

فبما أن المحرومَ نعمةَ البصر في بلاء عظيم، فالصبر عليه يجعل صاحبه يستأهل الظفر بأعظم النعم : الجنة.


أخي القارىء الكريم ! إن الحديث عن العين ذو شجون وأشكال، وأحاول أن أتحدث في هذا المقال عن نواح ومعان وصفات  للعين، وأنواع وألوان من النظر، و ما يتعلق بالعين من عجائبها وسحرها .

١- بعض معاني العين

تستعمل العين في عدة معان، منها :


بمعنى السحاب : 


يا دار سُعدى بذات الضَّال من إضم

سقاك صوبُ  حيا من  واكف العين


الضّال: نبت كالسلم، الحيا : المطر الخفيف .

العين هنا : سحاب ينشأ من قِبَل القبلة .


بمعنى عين الإنسان وغيره :


إني   لأذكره  أياما   بها   ولنا

في كل إصباح يومٍ قُرّةُ العين


بمعنى نبع الماء :


تُدني  مُعَشّقةً   منا  مُعَتَّقَةً

تَشُجُّها عَذْبَة من نابع العين


العين هنا : ما ينبع منه الماء.


بمعنى عين الركبة :


إذا  تمزَّزها    شيخ   به   طَرَقٌ

سرتْ بقوتها في الساق والعين 


الطَّرَق ضعف الركبتين .


بمعنى ثُقْب يكون في المزادة :


والزَّق ملآن من ماء السرور فلا

تخش تَوَلًُهَ  ما   فيه  من العين


فالعين هنا : ثُقْب يكون في المزادة، وتَوَلُّه الماء : أن يتسرب .


بمعنى الرقيب :


و   غابَ   عُذّالنا   عنّا    فلا    كَدَرٌ

في عيشنا من رقيب السوء والعينِ


العين هنا : الرقيب .


بمعنى العين في الميزان :


يُقَسَّم  الوُدُّ   فيما  بيننا   قِسَماً

ميزان صدقٍ بلا بَخسٍ ولا عينِ


العين : هنا العين في الميزان .


بمعنى المال النابِضّ :


وفائض المال  يغنينا  بحاضِرِه

فنكتفي من ثقيل الدَّين بالعين (١)


٢- أسماء لأجزاء العين

الحق أن لغتتا العربية من أكثر اللغات وفاء للعين، واعترافا بقيمتها، وتسجيلا لدقيقها وجليلها، لقد وضعوا لكل جزء من أجزائها - مهما دق - اسما بل أسماء، لا أطيل بذكرها، ووضعوا بيانا لما يستحسن في العين من الصفات، وسمّوا كل نوع من الجمال باسم، فقالوا : « عين ظمياء » إذا كانت رقيقة الجفن، و : « عين نجلاء » إذا كان جمالها في سعتها، و : « عين حوراء » إذا كان جمالها في شدة سوادها وشدة بياضها، و : « عين دعجاء » إذا كان جمالها في لونها وسعتها معا، إلى آخره .

٣- تعبيرات مختلفة عن نظرات العين

ثم التفتوا إلى شيء دقيق جدا يغبطون عليه، وهو اختلاف النظرات، فعبروا عن كل نظرة بعبارة، فقالوا : 

« رنوت إليه » إذا أدمت النظر في سكون طرف . و: 

« سارقته النظر » إذا نظرت إليه نظرا خفيا . و :

«نظر شزر » إذا نظر إليه بمؤخر عينه نظر الغضبان . و :

«شفته » إذا نظرت إليه نظر المبغض أو المتعجب . و:

 « أزلقه ببصره » إذا نظر إليه نظرة متسخط . و : 

«رأيتهم يتقارضون النظر » أي ينظر بعضهم إلى بعض نظرة عداء، إلى غير ذلك. ( ٢) .

٤- ألوان من نظرات العين:

- سبحان من يعلم خائنة الأعين، وهي تنظر إلى الحرام، وقيل تختلس النظر فجورا، ولهذا مدح عنترة نفسه بقوله :


وأغض طرْفي ما بدت لي جارتي

حتى    يواري    جارتي    مأواها


- وقد تنظر العين ولا تبصر، لأن النظر مشاهدة، والبصر اعتبار، لقوله تعالى { ولهم أعين لا يبصرون بها } ، ولم يقل : لا ينظرون بها، وقال : { ومنهم من ينظر إليك } أي : ولا ينتفع بنظره،  لأنه لم يعتبر، كما قال أبو الطيب :


وما انتفاع  أخي الدنيا  بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلَمُ


- ويظهر في العين الحب والبغض، والأمانة والخيانة، يقول الشاعر : 


والعين تعلم من  عيني  محدثها

إن كان من حزبها أو من يعاديها


و قال آخر : 


تقول عينك لي : لا مرحبا وهلا

قالت لسانك : والتصديق للعين (٣)


وقال آخر : 


وعين  الرضا عن  كل  عيب   كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا


٥- من عجائب العين:


- إذا كانت قلوب الأطباء، ما فيها إلا دم أحمر كدم الخروف، فإن قلوب الشعراء العشاق، فيها الماضي والحاضر، وفيها الزمان والمكان، وفيها الذِّكَر والآمال، وفيها من العجائب والأسرار، ما لا يستطيع الأطباء أن يصلوا إلى علمه، وهي بعد احياء مستقلة لا أعضاء .. ، العين لها وحدها حياة، والقلب له وحده حياة، وقد تفرح العين والقلب متألم .

وإن شككتم فهاكم الدليل من شعر الشريف : 


تَلِذُّ  عيني  و قلبي  منك  في  ألم

فالقلب في مأتم والعين في عرس


وللعين ( دائرة استعلامات ) تتجسس لها على القلب، فتهتك ستره، وتذيع سره، والشاعر حائر بينهما، متعجب منهما : 


هامت بك العين لم تتبع سواك هوى

من  عَلَّم العين  أن  القلب  يهواك ؟


صحيح و الله .. من عَلّم العين ؟! 

والعين تبصر مِن الحجاز مَن في العراق، وترمي بسهام فتونها من ذي سلم فتصيب من في بغداد، فتسبي وتصبي، لا تمنعها شوامخ الجبال، ولا شواسع البيد :


سهم  أصاب   و راميه  بذي سَلَم 

من في العراق، لقد أبعدت مرماك


- والعين تحصي عدد شهدائها، وتسجل أسماء من تصيبهم سهامها، وتقرأه على الشاعر من وراء صاحبتها، فيشهد جناية العين، ويقرر براءة الحبيبة، لأنها لا تدري ما جنت عيناها :


كأن طرفك يوم الجزع  يخبرنا

بما طوى عنك من أسماء قتلاك


-و لا تعجبوا من نطق العين، فإن العين تُحَدّث الأحاديث الطوال .. فهي تأمر وتنهى .. وتعد وتؤمل، ولكنها لا تفي، ولا تصدق منها المواعيد : 


وَعْدٌ لعينيك عندي ما وفيت به

يا طول  ما كذبت عينيّ  عيناك (٤) 


٦- الحوار بين القلب والعين:

طبعا .. هذا الحوار حوار شعري .. لا حقيقي .. فالقلب يعتب على العين أنها جرّت عليه المصائب، ولكن العين تُحَمّل القلب المسؤولية .. فإنه - القلب - هو الذي أغرى عليها بالنظر بما أمل وطمع :


يقول  قلبي   لطرفي   إذ  بكى   جزعا

تبكي  و أنت   الذي    حمّلتني   الوجعا

فقال     طرفي      له     فيما     يعائبه

بل   أنت   حمّلتني   الآمال   و   الطمعا 

حتى    إذا     ما    خلا   كلٌ    بصاحبه

كلاهما     بطويل      السقم    قد   قنعا 

نادتهما       كبدي       لا     تتعبا   فلقد

قطّعتماني      بما     لا      قيتما  قطعا (٥).

٧- رؤيا العين :

من الشعراء من عبر عن « طيف الخيال » بـ :  [ رؤيا العين في المنام ] ، و ذكرت كتب الأدب ما أبدع الشعراء في ذلك، وكيف تفننوا في معانيه، كالذي يقول : 


نصبتْ  جفوني  للخيال  حبائلا

لعل خيالا في الكرى منه يسمح 

وكيف  إذا   أغمضتُهن   بصيده

ومن عادة الأشراك للصيد تُفتح


وقولُ كُشاجِم :


لقد  بخلت  حتى  بطيف  مسلِّم 

عليّ    وقالت    رحمة    لنحيبي

أخاف على طيفي إذا جاء طارقا

وناداك  أن  يلقاه   طيف  رقيبي (٦)


٨- دمع العين: 

لعل أعظم ما اشتهرت به العين : الدمع والبكاء .. وهذا الموضوع - البكاء - أخذ حظا وافرا من شعر الشعراء .

والبكاء أكثر ما يكون حزنا، ولكنه يكون فرحا أيضا .. كما قال أبو هلال العسكري :


يا عينُ صار الدمع عندكِ  عادة

تبكين  في  مرح و   في أحزان

طفح السرور  عليّ   حتى   إنه

من عُظْم ما قد سرني.   أبكاني


وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : « وأعوذ بك من عين لا تدمع » أي من خشية الله، لأنها علامة الإفلاس، وقسوة القلب، ولهذا ذكر في :" البداية و النهاية " : أن أحد العباد لطم عينه وقال : جامدة ! فانهلت معين .

وعلى ذكر لطم العين : فقد أخرج البخاري : « أن موسى لطم عين ملك الموت » ، وهذا ما نؤمن به، فقد صح به الخبر .

نعم . من كرامة العين بكاؤها من خشية الله، فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بكى كثيرا وهو أتقى الخليقة لمولاهم ؛ ففي الصحيح : ( ان الرسول صلى الله عليه وسلم استمع لقراءة ابن مسعود، فلما بلغ قوله تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } .. قال : [ حسبك الآن ] ، فنظرت إلى عينيه، فإذا هي تذرفان .

ولما توفي إبراهيم ابن رسولنا صلى الله عليه وسلم .. قال : « تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا » .

و في السنن : ( أنه صلى الله عليه وسلم قام يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء ) . 

والله يقول في الذكر الحكيم: { ترى أعينهم تفيض من الدمع } ، فمدحهم بهذه الصورة المعبرة، والحالة المؤثرة، والصِّمّة القشيري غلب الشعراء بقوله :


بكت عينيَ اليمنى فلما   زجرتها

عن الجهل بعد الحِلم أسبلتا معا


فلو أن الشعر ينطق .. لصاح هذا البيت من حسنه .

وعلى ذكر ذلك : فقد قرأت في : « ديوان  السعدي الشيرازي » قوله : 


بكت عيني غداة البين دمعا

وأخرى بالبكٰى بخلت  علينا

فعاقبت  التي   بخلت علينا

بأن   غمَّضتُها   يوم  التقينا 


يقول الدكتور عائض القرني :

"قد رأينا شيخنا ابن باز بكى بكاء طويلا، ودموعه تذرف كأنها الدرر، فقلت :


عفوا لك اللهُ قد أحببت طلعتكم

لأنها  ذكرتني    سَير      أسلافي (٧)


٩- ممن ذهبت عيونهم في سبيل الله

ممن ذهبت عيونهم في سبيل الله في طريق الجهد أو العلم أو السهر في العبادة : ابن عباس، والمغيرة بن شعبة، وعدي بن حاتم، وأبو سفيان، و سعيد بن المسيب، ويزيد بن هارون، وقتادة، والأعمش، وغيرهم، حتى إنهم لما عزّوا ابن عباس في عينيه قال : 


إن يأخذ الله من عينيّ نورهما 

ففي  لساني  وقلبي منهما نور  


وقال أحد الشعراء وقد ذهبت عينه :


فو الله  يا صاحِ  مما بكيت

خشيتُ على عينِيَ الواحدة


وقد بكى سعيد بن المسيب من خشية  الله ستين سنة، حتى ذهبت عينه، قالوا: نذهب بك لترى الخضرة في وادي العقيق، قال : لا يكون هذا وأترك صلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم بألف صلاة فيما سواه .


فبارك الله في عين سخوتَ بها 

للعلم والفهم   والآيات  والسورِ 


وفي « النبلاء » عن يزيد بن هارون :    أنه لما عمي قيل له : أين ذهبت العينان الجميلتان ؟ قال : أذهبهما بكاء الأسحار . (٨)


الهوامش والمراجع

(١) ياقوت الحموي : معجم الأدباء

٤/ ٩١ - ٩٢ ، دار المستشرق، بيروت، لبنان .


(٢) أحمد أمين : فيض الخاطر ٢/ ١٧ - ١٨ . 

مكتبة النهضة المصرية، القاهرة .


(٣) د . عائض القرني : الأسطورة .

انظر : البحث : " العين " .

الطبعة الثانية ١٤٣٢ ھ - ٢٠١١م  ۔

دار المنهاج ، جدة، السعودية .


(٤) علي الطنطاوي : رجال من التاريخ 

ص : ١٣٦، ١٣٧ ، ( سيد شعراء الحب العذري ) . الطبعة الثانية 

المكتبة الأموية ، دمشق .


(٥) فيض الخاطر -بتصرف- ٢/ ٢٢


(٦) أيضا ٢/ ٢١ ، ٢٢ .


(٧) الأسطورة : ٥٤ - ٥٥ .


(٨) انظروا البحث: " العين" من " الأسطورة " للقرني .


( الاثنين : ٢٤ صفر ١٤٤٥ھ - ١١ سبتمبر ٢٠٢٣م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده