الخير والشر .. على أيهما طُبِع الإنسان ؟
على مائدة العلم والأدب
الخير والشر .. على أيهما طُبِع الإنسان ؟
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
هذا موضوع تكلم فيه الشعراء وأهل العلم والنظر من قديم، ولعل أبرز من تكلم فيه من فحول الشعراء : أبو الطيب المتنبي، الذي كان أعلن مدويا مجلجلا أن طبيعة الإنسان الأصلية الشر والظلم والعدوان .. فهو - الإنسان - خُلق ظالما، محبا للشر، معتديا على إخوانه بني آدم .. و إن وُجد أحدٌ طيبَ الخصال، ناصحا، يحب الخير والإحسان، لا يعتدي ولا يظلم .. فذاك أمرٌ يُعَد شذوذا و نغمة نشازا .. وخلافَ الطبيعة والأصل .. و لـ :" علة" يفعل - أي رجل - ما يفعل من الخير والبر . أي كأن بالشر و العدوان عجنت طبيعة الإنسان، فالظلم - حسب قول المتنبي - ليس بدعا من الأمر .. بل ينسجم وهوى الإنسان ومزاجَه وطبيعته، أما البر والتقوى والصلاح فأشياء عارضة وخصال هامشية لا تصدر عن الإنسان إلا فلتة عابرة .. - ضعفا أو عجزا - حينما يحول عن سجيته .
تعالوا نسمع الآن ذلك البيت، الذي قاله المتنبي ناعيا على جبلة الإنسان، ساخطا عليها، متهما إياها بكونها مصدر الشر والظلم والعدوان .. وأكيد أنكم تكونون على علم بالبيت، فإنه من أكثر أبيات المتنبي شهرة :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذاعفة ........... فلعلة لا يظلم
معذرة .. يا شاعرنا العظيم ! لقد أخطأك الصواب، وجانبك الرأي السديد !
نسلم بإمامتك في الشعر، ونعتز بك شاعرا أنصت له الدهر، فشِعرك عَبَر البر والبحر .. وبلغ حيثما بلغت العربية .. ومن أشعارك ما نسمعه ونقرأه منذ طفولتنا، منها البيت التالي :
الخيل والليل و البيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم (١)
و كذلك البيت الآتي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
و أسمعت كلامي من به صمم
الحقيقة أننا نحن طُرا من المقرين لك بفضلك، والمعترفين بسبقك إلى المعاني البكر، وعظَمَتِك الشعرية، التي أهَّلَتْك لتسميتك بـ :" الشاعر / الأسطورة " .
ولكن .. كما يقال : [ لكل جواد كبوة .. ولكل عالم زلة .. و لكل سيف نبوة .. ] .
وكما قال السلف : [ كل يؤخذ منه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ] .
و للعبقرية ذهول، وللإبداع خدوش، وللفضل نقص .. والكمال لله الحكيم وحده .
يا شاعرنا المفخرة ! الأمر على العكس تماما .. ونراك قلبت الأمر رأسا على عقب ..
فإن العدل والإحسان وجميع صفات الخير من شيم النفوس .. فإن نجد ذا ظلم أو إساءة .. فلعلة لا يعدل ولا يحسن ..
أيها الشاعر الأسطورة ! عليك رحمات الله .. كم و كم تحوي أبياتك من درر الحكم وغرر المعاني ما نستنير به في معركة الحياة، و نتقوى به في مواجهة مشاكلها .
و لكن إلى ذلك كله .. نرى أنك لم توفق في بيتك هذا معنىً .. ونظرتك التي أشرت إليها تتعارض مع الواقع المعاش .. فالناس مهما فشا فيهم الشر والفساد، وغلبت عليهم المنكرات ... ولكن الأغلبية الساحقة ما زالت ولا تزال على الخير .. كما قيل - في كلمة تنسب إلى عبد الله بن المقفع - :[ ما فسد الناس، ولكن اطرد القياس ] .
وفوق ذلك .. إن نظرتك هذه لا تتلاءم مع نظرة الإسلام، التي تؤكد على سلامة الفطرة ونبل الطبع وصلاح الشيم، ولكن البيئة هي التي تفسد على المرء فطرته، وتنحرف به عن الطريق السوي .. فمما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء . ثم يقول أبوهريرة رضي الله عنه: فطرة الله التي فطر الناس عليها .. » .
فالحديث واضح صريح في أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها فطرة سليمة صحيحة لا عوج فيها ولا زيغ .. فطرة مُحِبَّة للخير والعدل والسلام، كارهة نافرة من الزيغ والضلال ..
يا شاعرنا العظيم ! إن هذه النظرة التشاؤمية التي يعرضها بيتك هذا .. ما إخالها إلا ناتجة عن تجاربك الشخصية المرة .. فلعل معظم الذين عاشرتهم واحتككت بهم .. كانوا سبب ما قلت في هذا البيت .. و إلا فنحن نطَمْئِنُك أن الناس ما زالت طبيعة معظمهم - حتى في هذا الزمن الأخير الذي يموج بالفساد - طيبة، و فطرتهم سليمة، وشيمهم عفيفة تفيض بالخير والرحمة .. فقر عينا في مثواك .. واسترح بالا .. ولا يهمنك الأمر .. فالعدل والبر والإحسان ما زال من فطرة الإنسان، أما ضد ذلك .. فليس إلا مما يؤدي إليه سوء التربية وفساد البيئة..
ويشبه - بل يعضد - رأيَ المتنبي في هذه القضية .. ما كتبه أحد أكبر كتاب العربية أبو حيان التوحيدي ( ٣١٠ - ٤١٤ ھ ) ، يقول :
" وبعد وقبل .. فالكلام في نشر العيب، وكشف القناع، وتدنيس العرض، وهَجْو الإنسان ووصفِه بالخبائث أكثرُ استمرارا، والمتكلم فيه أظهر نشاطا، وأمرن عادة، وأوقدُ هاجسا، وأحضر عاطسا، وهذا لأن الشر طِباع، والخير تكلف، والطينة أغلب.
وقال بعض فتيان خراسان : الإحسان من الإنسان زلة، والرحمة من القادر أعجوبة، والظلم من المُدِلّ مألوف " . (٢)
مهما اتهم المتهمون الطبيعة بكونها منبع الشر، واعتبروا الفساد والظلم أصلا، والإحسان والعدل تكلفا ... ولكنني لستُ بمصدق بهذه النظرية .. لأنها تتصادم مع نظرة الإسلام .. كما أشرت إلى ذلك فيما سبق من الكلام ..
فإن فطرة الإنسان فطرة بريئة عفيفة، والإنسان الذي قال عنه خالقه :{ ونفخت فيه من روحي } (٣) هذا الإنسان لا يمكن أن تكون طبيعته شرا وخيره تكلفا ..
إن هذا الإنسان الذي يولد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها .. يستطيع أن يعلو فيكون خيرا من ملَك .. ولكنه قد يسفل فيكون شرا من شيطان ..
إن جوهر الإنسان سام رفيع، وطينته مباركة، فهو بطبعه مائل إلى الخير أكثر منه إلى الشر .. و لكنه يتأثر بما وبمن حوله .
في صحيح مسلم :« وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء .. و أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم » . والمراد : استخفوهم، فذهبوا بهم، وأزالوهم عما كانوا عليه، وجالوا معهم في الباطل، فزينوا لهم المحرمات، وقبحوا لهم الطيبات .
هذا الحديث - أيضا - يدل دلالة صريحة على كون الإنسان سليم الفطرة، برىء الطبيعة، ولكن الشياطين - من الجن والإنس - لا تتركه كما خُلق ... بل لا تزال به حتى تجعله يتبع سبيلهم .
وهناك شيء آخر مهم .. وهو أن الله الذي خلق الإنسان أحسن ما يكون { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} أي أعدل قامة وأحسن صورة . فلا صورة أحسن من صورته، ولا شكل أحسن من شكله { وصوركم فأحسن صوركم } .
فإذا كان الله جعل ظاهر هذا الإنسان وشكله وصورته أحسن وأجمل ما يكون، فكيف يمكن أن يجعل باطنه - طبيعته و فطرته - خلاف ذلك، فالله الذي أحسن صورة الإنسان، أحسن طبيعته وفطرته كذلك .. ولكن الفطرة قد تتأثر بالمؤثرات الخارجية، فتتغير عن مسارها، وتنحو نحوا غير صحيح .. وتسلك مسلك المقابح والمساوىء، فالذنب ليس ذنب الفطرة .. !
والطبع يسرق، والنفس تهوى التقليد .. فمخالطة الأشرار تفسد على المرء طبيعته وفطرته ..
فمن هنا تتحول الفطرة السليمة العادلة فاسدةً ظالمةً ..
إذا .. الظلم وغيره من أعمال السوء ليس من شيم النفوس .. بل ناتج عن الفساد الطارىء على سلوك الإنسان وحياته، والخيرُ والبر هو الأصل الأصيل لفطرة البشر .
الهوامش والمراجع
(١) هذا البيت كان تسبب بمقتل المتنبي
(٢) أبو حيان بن علي بن محمد التوحيدي : أخلاق الوزيرين
ص : ٥٢٩ .
دار صادر ، بيروت ، لبنان .
١٩٩٢م - ١٤١٢ھ .
(٣) أضافه إلى نفسه تشريفا وتكريما، كقوله : أرضي و سمائي، وناقة الله، وشهر الله، والشر لا ينتج من الروح مفردة، وإنما عن اجتماعهما بالبدن .
قال ابن القيم : وباجتماع الروح والبدن تصير النفس فاجرة أو تقية، وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها .
( الجمعة : ١٤صفر ١٤٤٥ھ - أول سبتمبر ٢٠٢٣م ) .
تعليقات
إرسال تعليق