نعم! إنها قَطَر المجدِ والظَّفَر

من وحي الأيام

نعم! إنها قَطَر المجدِ والظَّفَر


محمد نعمان الدين الندوي 

لكناؤ ، الهند 


سَقَوني وقالوا لا تُغَنِّ ولو سقوا

جبـالَ سُلَيْمى ما سُقِـيتُ لَغـنَّت


حينما يرى الإنسان من المناظر، أو يسمع من الأخبار، ما يَحْبُر ويَسُرُّ، ويُسعد ويُعزُّ..، يشعر -طبعًا- بالسعادة والعزازة بما يرى ويسمع، ويُعَبِّر -باللسان أو القلم أو بكليهما- عن اغتباطه بالسارِّ، واعتزازِه بالمُعزِّ، وسعادته بالمُسعِد من الوقائع والمشاهد، والأخبار والأحداث، ويُشيد بذكرها إعجابًا وعجبًا..!

فالفرح بما يُفرح والاعتزاز بما يُعزُّ شيء طبيعي، لا حرج فيه ولا غرابة، ومعروف ومعقول، ومرضِيٌّ عنه في كل مجتمع، وديننا -الذي  هو دين الفطرة- أيضًا- يحببنا إلى ذلك: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) .

 فمن هنا . . -مرة أخرى- أجدني مدفوعًا عن طواعية ورضًى، نابعين عن شعور داخلي  بالاقتناع والاعتزاز إلى أن أعود  -ولعل العود أحمد- إلى الحديث  عن صنائع قطر الحبيبة عبر بطولة كأس العالم «الفيفا» ٢٠٢٢م.. ذلك الحدث التاريخي الجلل، الذي استقطب مشاهير أبطال الرياضة، وجماهير العظماء، واستلفت أنظار العالم إليه، والذي تسجل به قطر -حاليًّا- تاريخًا يمثل واسطة العقد وبيت القصيد، والغرة في وجه تاريخها -هي- بالذات!

إي والله ! أرى من واجبي -انطلاقًا من ضميري، وديني وأمتي- أن أشيد بما يستحق الإشادة، وأُقدِّر ما أراه جديرًا بالتقدير، وأعبر عن إعجابي بما هو أحرى بالإعجاب؛ لأنني أرى عدم البوح بما يفيض به القلب من مشاعر الغبطة والاعتزاز بالاطلاع على ما يجري هناك على أرض مونديال القطرية العزيزة -من مظاهر تسر المسلم وترفع رأسه عزًّا- خيانةً لضميري، وخنقًا لصوته، وتقييدًا لحرية تعبيري، وقصًّا لجَنَاحها.

أرى وأسمع ما يُشرِّف الإسلام وأهله، وما يعتز به المسلم، ثم لا أعبر عن اغتباطي واعتزازي بذلك؟! 

تالله لا يمكن ذلك لي، ولا لأي مسلم -يرى هذه المشاهد القطرية الإيمانية- أن لا يظهر فرحه  واعتزازه بما يرى من المناظر المفرحة للقلب، المنعشة للروح.. مناظر الصلوات التي يحافَظ عليها مهما كان الوطيس -وطيس اللعب- حاميًا، ومهما كان أبطال المعركة الرياضية.. في قمة تسابقهم، وأوج رهانهم.

 فإذا حانت الصلاة دوَّت ساحات الرياضة وأجواؤها، وأرض قطر -التي تتلألأ بالنور والسرور، وتزدان بالزهور والحضور- وسماؤها بنداءات المؤذنين (الذين اختِيروا -خصيصًا لهذه المناسبة-؛ لما يمتازون به من جمال الصوت الذي يشنف الأسماع، وحسن الأداء الذي يجذب القلوب، وروعة اللحن الذي يؤثر في النفوس).

فإذا رفع الأذان من على منائر بيوت الله، توقف النشاط الرياضي فورًا، وجمدت الحركة والركض والجري في حينها، وترك اللاعبون لعبهم في نفس اللحظة، وانقلب جو المرح والفرح والطرب، والتسابق والتنافس-فجأة- رأسًا على عقب؛ فساده الخشوعُ والخضوع، والجد والوقار والجلال، وهرع المسلمون -المتواجدون هناك- إلى أداء أعظم فريضة عليهم بعد الشهادتين (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة) . فالصلاة فوق كل شيء، وهي عماد الدين، وهوية المسلم الكبرى.

فيا له من منظر يُعِزُّ المؤمن، ويهز روحه، ويُذل الشيطان، ويُخجل حزبه!

والمسلم أعز وأسمى وأعلى ما يكون: في الصلاة (الصلاة معراج المؤمن).

لقد أثبتت قطر إسلاميتها بشكل قاطع.. وسجلت حرصها البالغ على أعظم مظاهر هويتها.. بالتأكيد على حرمة الصلاة وأهميتها عبر تأمين إقامتها في خضم المعارك الرياضية؛ فالصلاة فريضة المسلم الكبرى، فلا دين لمن صلاة له، ولا يمكن للمسلم أي تهاون في الصلاة. 

إن هذا الاهتمام الكبير بالصلاة يشف عن مدى حرص قطر الأكيد على المحافظة على أعظم مظاهر هويتها  : «الصلاة» خاصة، وعلى العناية بالثوابت الأخرى عامة.

وهكذا تكون الأمم الحية؛ فهي لا تتنازل عن هويتها قيد شعرة، مهما كان الموقف حرجًا وصعبًا.

فالأمم والأجيال تحيا بالمعاني، وتستمد قوتها وحياتها بالعض على المرتكزات والثوابت بالنواجذ.    

 و -بالعكس- الأمم التي تتجاهل هويتها، وتتهاون في الاعتصام  بشخصيتها، والافتخار بثوابتها ومرتكزاتها، تصير بلا قيمة ولا كرامة، وتفقد الأهمية عند الآخرين أيضًا، وتسقط عن أعينهم.

لقد نجحت قطر إسلاميًّا.. (وستنجح على كل منصة من منصات الشرف الأخرى -أيضًا- إن شاء الله).

إنها نجحت في إضفاء « لمسات روحانية» و« جرعات إيمانية» على الأجواء الرياضية.. أو قل: جعلتها مُستَظَلَّة بأجواء روحية، تهب عليها نفحات قدسية عطرة؛ فما تركتها -الأجواءَ الرياضية- تطغى عليها شخصيةٌ غيرُ شخصيتها الإسلامية العربية، بل راعت الانسجام الرائع والتوازن الماتع والمواءمة الموفقة بين الترويح المعنوي، والترفيه المادي، بين الروح القطرية الأصيلة وبين المتعة الرياضية الترفيهية، بين الشخصية القطرية العريقة وبين المناسبة الحالية الممتعة.   

وهذا الجانب.. جانب التركيز على الشخصية وعدم تحمل أي مس بها، أو أيِّ تقليل من شأنها، وتفضيلُ الهوية على الهواية،  ووضع شعيرة الإسلام الكبرى في موضعها اللائق بها، وإعطاؤها ما تستحق من الأهمية والأولوية . . هو الذي صار اليوم شغل العالم الشاغل وحديث النوادي والمحافل في كل مكان.

وهذا الجانب هو الذي يكاد يجعل قطر شامة بين شقيقاتها. ويقطع لها رصيدًا من السمعة الطيبة والذكر الحسن، والمكانة المرموقة.

وهو الجانب الأحرى بالتنويه والتقدير، والائتساء به، والحذو حذوه.

ومن خيرات «مهرجان المونديال القطري»، الذي لو لم يكن له غيره إلا هذا: «الخير» فقط لكفاه فخرًا وشرفًا.

 هو أن هذا المونديال القطري طَمَّ الفجوات، وردم الفتوق،  وبرَّد حرارة الخلافات، ونَحَّى الحزازات جانبًا، فجمع الأشقاء -بعد فراق لم يكن إلا صوريًّا، وبعد جفاء لم يكن إلا ظاهرًا- على منصة واحدة، منصة الألفة والإخاء والصداقة والوفاء؛ فقد رأى العالمُ البعداءَ يتقاربون، ويتعانقون ويتصافحون، ويتلاقون  ويتبادلون التحيات والتهنئات والأحاديث الودية.

لعمر الله إن ذلك في حد ذاته لمكسب كبير ومأثرة جُلَّى؛ فهذا التقارب بالأبدان والتصافح بالأيدي وتبادل كلام الحب والوئام، واللقاء بالعيان مما يؤدي إلى تآلف القلوب وتقارب الأفكار، وتداني الأرواح، وتباعد أسباب الافتراق، و -من ثم- نَفَاقِ سوق المحبة والوفاء، والثقة والتفاهم، والتكتل والتلاحم، والاصطلاح على ما فيه خير الأمة من قِبَل الأشقاء. 

ستترك هذه الظاهرة الثقافية الإسلامية، والمناسبة الرياضية الدولية بصمة ممتازة في جبين الدهر.

الحقيقة أن قطر الظافرة تبني  مجدًا، وتؤثل عزًّا، وتصنع تاريخًا، وتحفر -بصنائعها- آثارًا تبقى أبد الدهر. 


صنائعُ فاق صانعُها ففاقت

وغرسٌ طاب غارسُه فطابا


كما تتفنن قطر الكريمة في إكرام ضيوفها -من اللاعبين والوافدين الذين يعدون بالملايين- عبر توفير أقصى وسائل الراحة لهم، وتغمرهم بأنواع من الكرم العربي، والضيافة العربية العريقة التي تمتاز بها أمة العرب بين الأمم الأخرى.

والشعب القطري -هو الآخر- يقف جنبًا إلى جنب مع الحكومة القطرية في استضافة القادمين والترحيب بهم ترحيب المرء بأقرب قريبه، وأعز عزيزه. 

 فلا شك أن  قطر تقطر بل تفيض -هذه الأيام خاصة- خيرًا وكرمًا ونبلًا، وتبدو بل تتجلى عراقة وأصالة، وتتلألأ بل تشرق شخصية وهوية، وتجري بل تطير سبقًا وسناءً، وفضلًا وعلوًّا. 

إنها تعيش قمة عزها وشموخها، وترفل في أبهى حلل السعادة والكرامة.

إن قطر اليوم قد أصبح لها وزن عالمي رغم صغر حجمها وقلة سكانها.  

نعم. قد أضحى لها اليوم ثقل دولي، ومكان عال مغبوط، تتطلع إليه دول أكبر -من قطر- مساحة وعمرانًا ووسائل...

صان الله قطر والأسرة الحاكمة الموقرة، وشعبها النبيل الوفي الكريم، وحفظها مثابةً للأمن والعافية، وحاملة مشعل الحب والسلام، ومحطة تقريب الصفوف وتأليف القلوب، وقدَّر لها مجدًا لا يرثُّ على الدهر، وعزًّا لا يبلى على كر الليالي، وعلوًّا لا ينخفض أبد الآبدين، وثَبَّتها على المنهاج الذي اختارته، والدرب الذي رضيته، وأبقاها نجمًا ساطعًا.. بل شمسًا مشرقة في سماء دنيا العز والعظمة، وحفظ لها النماء والرخاء، وأظل عليها -دائمًا- ظلال الأمن والعافية والسلامة، وأدام ذكرها مرفوعًا على نواصي الشرق والغرب. 

نعم ! إنها قطر المجد والظفر . .


(الأحد : ٩ من جمادى الأولى ١٤٤٤ھ = ٤ من ديسمبر ٢٠٢٢م ) 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده