المحدث الجليل: الشيخ محمد يونس الجونفوري - الحلقة(١)
شخصيات أعجبتني
المحدث الجليل: الشيخ محمد يونس الجونفوري
الحلقة(١)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
هو الشيخ محمد يونس بن شبير أحمد بن شير علي الجونفوري، الهند.
ولد يوم ٢٥ رجب ١٣٥٥ھ، الموافق ١٠اكتوبر ١٩٣٧.
وتوفي يوم الثلاثاء : ١٦ شوال ١٤٣٨ھ، الموافق: ١١ يوليو ٢٠١٧م .
يونس والحديث
أي حب .. وأي أنس يفيض اسم " يونس" على قلوب تلامذته ومحبيه والمعجبين به .
هذا الاسم الأنيس المأنوس، الأليف المألوف، الحبيب الأثير العزيز ..
"يونس" و" الحديث " صارا كيانين مترافقين متلازمين متلاصقين .. فإذا ذُكِر يونس ذُكر الحديث، والعكس صحيح .. وهذا لأن الرجل إذا عرف بشيء نُسِب إليه، وصاحبنا لم يصل إلى هذه المرتبة إلا لأنه جعل "الحديث الشريف" شعاره ودثاره، ومصبحه وممساه، وشغله الشاغل، وغاية مناه، فكان يعيش به وله وفيه .
حقا .. لقد كان يونس الجونفوري واحدا من الموكب الكريم، الذي يقوده ذلك الرهط المبارك : البخاري، ومسلم، وأبوداود، ومالك، والنسائي، وابن ماجة، والترمذي، والطحاوي، والدهلوي، والكشميري، والكاندهلوي وغيرهم من الذين يتصدرون محراب تاريخ :" الحديث والسنة" ممن يعرفون باسم :" المحدثين الكرام " .
هذا الموكب الكريم الممتد في شعاب الزمن من القرن الأول إلى عصرنا هذا .. ، سيستمر سيره المبارك إلى قيام الساعة إن شاء الله، لأن أصحابه الأجلة - من صيارفة الحديث المهرة، ومن أهل الرواية الصادقين، والدراية العارفين، وجهابذة النقل الواعين- قد اضطلعوا بأعباء مهمة عظيمة . . مهمة حفظ "الحديث الشريف" وصيانته، الذي يعد شارح كلام الله ونموذجه العملي، والمصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.
اعتراف المعاصرين بمكانة الجونفوري
إنما يعرف فضل العلم من
سهرت عيناه في تحصيله
يقال : " المعاصرة سبب المنافرة" ،و أيضا :" المعاصرة أعدى أعداء الاعتراف بالنبوغ"، ولكن هاتين الكلمتين ثبت عدم صحتهما - على الأقل- في شأن الجونفوري، فقد اعترف بتميزه ومكانته الجليلة في فنه كبار معاصريه، فقد سئل محدث ديوبند الكبير الشيخ سعيد أحمد البالنبوري رحمه الله - شيخ الحديث بدارالعلوم ديوبند سابقا- عمن يستحق لقب :"أمير المؤمنين في الحديث" في العصر الحاضر، فقال: الشيخ محمد يونس الجونفوري ، وهي شهادة لها أهميتها ..(إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ) .
النبوغ المبكر
وإذا رأيت من الهلال نموه
أيقنت أن سيصير بدرا كاملا
لقد كانت ظهرت مخايل النجابة وبشائر التفوق والنبوغ في الشيخ الجونفوري في أول عهده بالدراسة، فقد كان توسم المتوسمون من أساتذته النبوغ المبكر في هذا " الطالب المُبرِّز المُجِّد الذكي الجونفوري" لاجتهاده غير العادي -رغم ما يعاني من مشاكل صحية- في طلب العلم، وصلاحه المتميز، حتى شيخه العلامة زكريا الكاندهلوي كان قد رأى -بعين بصيرته وفراسة إيمانه وسابق تجاربه -لتلميذه هذا مستقبلا لامعا، فبشر تلميذه الأخص هذا قائلا : يا يونس ستبلغ مرتبة أعلى من مرتبتي .. ! وهذا ليس بغريب .. ! فكم تلميذ فاقوا أساتذتهم، فهذا البخاري، ومالك، وأبوحنيفة وغيرهم ممن وصلوا إلى مكانة أرفع من مكانة أساتذتهم، و هذا لا يحط من قدر المعلمين بل ربما يرفع مكانتهم ويعلي شأنهم، لأنهم ربوا تلامذتهم تربية رفعتهم إلى هذه المكانة المتميزة .. وفي ذلك شرف لهم، وفوق ذلك .. إن الأمر كله بيد الله، فهو يرفع من يشاء .. ويفضل من يشاء .. فلكل حظه وقدره، ويؤتى كلُّ واحد حسب جده ومثابرته ونصيبه .
كذلك سمعنا أن بعض أساتذة الجونفوري كان لا يلقي درسه في الفصل إذا لم يحضر الطالب النجيب الجونفوري -يوما- لمرض أو لسبب آخر، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حظوته عند أساتذته وحبهم إياه لتفوقه ومكانه عندهم !
لم ير مثل نفسه
ولعلنا إذا قلنا إن الشيخ المحدث الجونفوري رحمه الله لم ير مثل نفسه في الشغف بالحديث الشريف والإقبال عليه وفي باب الزهد والتقوى .. ما تجاوزنا الصواب، وما اتهمنا أحد بركوب متن الغلو أو المبالغة في وصف الشيخ، أو أننا علونا به فوق قدره .. وجزى الله خيرا أولئك الذين كشفوا لنا الكثير -مما كنا لا نعلمه من أحوال الشيخ في حياته- عن عجائبه ونوادره في تفرغه للعلم، وورعه، وإنفاقه في سبيل الله، وغرارته في الدنيا و رغبته عنها، وفيما يلي غيض من فيض مما سمعنا أو قرأنا عنه من عجائبه وخصائصه بعد وفاته .
فمن عجائب شيخنا رحمه الله تعالى أنه قرأ مسند الإمام أحمد بن حنبل أربع مرات للبحث عن كلمة واحدة خلال تخريج حديث واحد .
خشيته
ومن عجائبه الدالة على عظيم خشيته من الله أنه لم ير قط وجه أجنبية منذ أن بلغ، كما ذكر لنا ذلك بعض تلامذته .
مضى طاهر الجثمان والنفس والكرى
وسُهد المنى والجيب والذيل والردن
وهكذا كان سلفنا رحمهم الله، فمما قرأنا في الكتب أن ابن سيرين رحمه الله كان يقول : ما غشيت امرأة في نوم ولايقظة غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة لا تحل لي في المنام، فأصرف نظري، قال الشاعر :
كريم حليم الجفن والنفس لا يرى
إذا هو أغضى ما يرى الناس في الحلم
وفي الحديث:" عفّوا تعفّ نساؤكم" (٢)، وقال بعضهم :
عفوا تعف نساؤكم في المحرم
و تجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنى دَينٌ إذا أقرضته
كان الوفاء من أهل بيتك فاعلم
زهده في الدنيا
في إحدى زيارته للمدينة المنورة أهدى إليه محبوه من الريالات ما ملأ كيسين كبيرين، فقال لخادمه: قسمها على المستحقين من مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم، فقال خادمه: أبق منها شيئا لنفسك، فقال : لا .. بل وزِّعها كلها، فوزعها كلها، فلما وصل - عائدا إلى بلاده- إلى المطار .. احتاج إلى بعض الريالات، فقال للخادم : أعطني مأة ريال دَينا .. ، وسأقضيها لك بعد عودتي إلى الوطن إن شاء الله تعالى.
لما سمعتُ هذه القصة ممن أثق به من تلامذته، قلت : هذا مثال نادر فريد للزهد في الدنيا، وعدم الرغبة فيها في هذا العصر الذي كثر فيه التهالك على حطام الدنيا، والتنافس في الحصول على شهواتها.
وكذلك سمعت أن الشيخ كان لا يكاد يميز بين النقود من صغيرها وكبيرها .
ورعه
ومما سمعت كذلك من بعض تلامذته أن بعض محبيه أهدى إليه ذات مرة خمسة و عشرين ألف روبية هندية، فأنفقها على ضيوفه، ثم جاء ذلك المحب بعد مدة، وقال له : يا شيخ كان ذلك المبلغ من الزكاة .. فغضب الشيخ وقال له: هلا أخبرتني بذلك حينما أعطيتني ذلك المبلغ ... أنا أنفقته على ضيوفي، يقول الراوي : أنفق الشيخ بعد ذلك -عوضا عن ذلك المبلغ (أو قل : كفارة لذلك المبلغ من الزكاة ) - نحو مئتين وخمسين ألف روبية .. ولكنه لم يزل غير منشرح الصدر أو غير مقتنع بذلك .. وظل يتأسف كثيرا على إنفاقه :"الزكاة" على ضيوفه .
معاملته مع نقاده
انتقده بعض معاصريه انتقادا لاذعا، نشره في مجلته الفصلية التي كان يصدرها، ومعلوم أن كثيرا من الانتقادات يكون على طريقة :( من أراد أن ينتقد الورد، فلم يجد فيه عيبا، إلا أن قال له يا أحمر الخدين) .. ، أو كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"لو كان المرء أقوم من قدح لوجد له غامز " ، كذلك هذا النقد الذي تناول به ذلك المعاصرُ الشيخ يونسَ كان جهلا في جهل في جهل .. ، على أن هذا لا يعني أننا نعتبر الشيخ أسمى من كل انتقاص أو نقد .. ، بل نريد أن نقول إن ذلك النقد كان غير صحيح، ومبنيا على الجهل التام، فأراد تلامذة الشيخ أن يطلبوا من الناقد التدليل على انتقاده للشيخ، ولكن الشيخ منعهم من ذلك منعا باتا، وقال لهم : كلا .. لا تواجهوه بأي اعتراض أو إنكار .. و لا تطالبوه بأي دليل، ولا تحاولوا الرد على نقده، ولا تقولن له شيئا يؤذيه أو يجرح كرامته، وإياكم أن يناله منكم شيء مما لا ينبغي، وقال : يمكن أن يكون قد انكشف له -للناقد- من عيوبي شيء !
هذه هي أخلاق العلماء الربانيين .. وقصة الشيخ هذه ذكرتني بقول بعض العلماء : لقد استوى عندي المادح والذام .
احترامه للعلماء
معروف عن الشيخ أنه كان يذكر أسماء جميع العلماء والأئمة باحترام يليق بمكانتهم، ولم يك ينتقص من أحد أو يحطه من مكانته، ولكنه ذات مرة وصف ابنَ همام -في بعض المسائل- بكونه قليل العلم .. ثم تنبه إلى قوله فيه، فجاء من الغد للفصل، وهو يتأسف ويندم كثيرا ويستغفر الله على قوله ذلك .. وكانت العبرات تسيل من عينيه، وقال : و الله لو اكتحلت بغبار حذاء ابن همام، لكان ذلك شرفا لي عظيما ... وهو من هو في تبحره العلمي، ولكنه لعله ما وصلت إليه أحاديث هذه المسألة كاملة .. فقال ما قال ..
هذا التواضع مما رفع قدر الشيخ وجعله شامة بين أقرانه ومعاصريه .
مزاحه
إلى تقشفه وصرامته وكامل إقباله على العلم والعبادة، كان الشيخ الجونفوري خفيف الروح وصاحب دعابة ومزاح، وهذا -أيضا- عملا بالسنة الشريفة .. ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا الحق، ويسابق عائشة، ويتلطف بنفسه.
فالمزاح ليس عيبا إذا كان غير مسرَفٍ فيه، قال الجاحظ : " من كانت فيه دعابة، فقد برىء" ، وقالت العرب : " الإفراط في المزاح مجون، والاقتصاد فيه ظرف، والتقصير فيه ندم"، ويقول أهل الشام :" في المزاح تشتفي الأرواح"، أي تستطيع أن تقول في المزاح ما لا تستطيع أن تقوله وأنت جاد، وقيل :" روحوا القلوب ساعة فساعة، فإنها إذا كلت عميت :
أفد طبعك المكدود بالْهَمّ راحة
بحزم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
وأيضا قيل :" حمضوا مجالسكم" ، وقال علي بن أبي طالب :" إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فأبدوا إليها طرائف الحكمة" .
وكاتب السطور رأى بنفسه الشيخَ الجونفوري يداعب ويمازح الشيخ طلحة الكاندهلوي رحمهما الله( نجل الشيخ زكريا الكاندهلوي رحمه الله ) .. فكان مزاح الشيخ الجونفوري مزاحا بريئا خفيفا ترويحا عن العمل المضني الشاق، وتنشيطا للنفس للمزيد من الجد والاجتهاد والتفرغ للعلم والعكوف عليه .
الهوامش
(١) الكرى : النوم، ونقيضه: السهد، وقوله : سهد المنى، إنه إذا سهر في أمر يتمناه، لم يسهر إلا فيما يهمه، والكرى : النوم.
(٢) الطبراني في الأوسط : ٢/ ٨ ، مطولا .
( الجمعة : ٥ من ذي القعدة ١٤٤٤ھ = ٢٦ من مايو ٢٠٢٣م ) .
تعليقات
إرسال تعليق