المحدث الجليل: الشيخ محمد يونس الجونفوري - الحلقة (٢) الأخيرة

شخصيات أعجبتني

المحدث الجليل: الشيخ محمد يونس الجونفوري

الحلقة(٢) الأخيرة


محمد نعمان الدين الندوي 

لكناؤ، الهند


إقبال طلاب العلم على الشيخ

لما كان للشيخ الجونفوري رحمه الله القدح المعلى في الحديث خاصة، فقد نبغ فيه، وبذً أقرانه، وطار صيته في الآفاق لبراعته وتميزه في معرفة السنن ومصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وعُرف بأنه من أكثر علماء الهند بل والعالم الإسلامي  اختصاصا وعناية بصحيح البخاري، ومعرفةً بمنهجه وتفاصيله ومسائله، فكان إذا تكلم حول الرجال، شعر التلاميذ كأن الإمام الذهبي أو ابن حجر يتحدث عن رجال الكتب الستة، ( كما شهد بذلك بعض كبار أهل العلم من البلدان العربية ) .

أقول : لما كان الشيخ الجونفوري رحمه الله على هذه المكانة والصدارة من الحديث الشريف .. ضربت إليه أكباد الإبل، وحج إليه طلاب العلم والمعنيون بالحديث الشريف من  شتى أنحاء الأرض، ليغترفوا من بحر علمه، ويرتووا من منهله العذب، فكان كبار أهل الاشتعال بالحديث يعتبرون قراءة كتب الحديث على الشيخ، وأخذ السند عنه شرفا لهم أي شرف .. وهذا لا عجب فيه، فالمنهل العذب كثير الزحام، والفَراش لا يتساقط إلا على النور، ولا تنجذب المادة إلا إلى  المغناطيس .

وكانت مجالسه (أي مجالسه العامة، ومجالس دروس الحديث الخاصة ) مجالس علم وأدب، ووقار وسكينة، وكأن على رؤوس الحاضرين فيها الطير .. ، وحدث فعلا أن جلس مرة طائرٌ على كتف الشيخ، كما رأينا ذلك في بعض صوره، التي نشرت بعد وفاته في وسائل التواصل الاجتماعي (وعصفور باليد أفضل من عشر على الشجر ) .

شدة خوفه من الله

كان رحمه الله رقيق القلب، سريع الدمع، كثير البكاء، عظيم الخشية من الله تعالى، وكان كثيرا ما يقول :" هل أستطيع الإجابة عن أسئلة القبر يا ترى ..؟ " .

وهكذا كان سلفنا رحمهم الله، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:

"لو أن لي طلاع ( مقدار) الأرض لافتديت بها من هول ما أمامي، قبل أن أعلم ما في الخبر" ، وابن مسعود رضي الله عنه كان يقول :" ليتني إذا مت لا أبعث"، وعائشة رضي الله عنها تقول :"ليتني كنت نسيا منسيا" .

 شرف مصاحبتي للشيخ

نعم . من عظيم شرفي وحسن حظي أنني سعدت بمصاحبة الشيخ الجونفوري رحمه الله أياما -أو قل: ساعات- من حياتي، وقصة ذلك أنني كنت مقيما في المدينة المنورة للدراسة في الجامعة الإسلامية في أوائل هذا القرن ( تحديداً  من ١٤٠٢ إلى ١٤٠٥ھ) ، و في ١٤٠٣ھ (فيما أذكر )كنت جالسا في المسجد النبوي الشريف بعد صلاة العصر، وذلك بعد الحج، إذ وقع نظري على الشيخ وهو يدخل المسجد النبوي الشريف، فهرولت إليه مرحبا به، وسلمت عليه وصافحته، وعرّفْته بشخصي، فهش لي وبش،( وخاصة لأنه كان من أصدقاء والدي الشيخ محمد برهان الدين السنبهلي رحمه الله - أستاذ العلوم الشرعية بندوة العلماء سابقا - و المقدرين لفضله )  ولم يكن الشيخ - آنذاك-  بلغ من الشهرة والصيت ما بلغ منه فيما بعد،  ولعله لم يكن يرافقه أحد في رحلته تلك، فكنت ألقاه كل يوم بعد صلاة العصر في الحرم ما دام مقيما في المدينة المنورة، و أصاحبه إلى ما بعد صلاة العشاء،  وكنت أصلي  المغرب والعشاء  معه  في المسجد النبوي الشريف، وأحيانا كنت أخرج معه إلى بعض المكتبات التي كانت حول المسجد النبوي، فكان يبحث فيها عن بعض الكتب، ولعله كان يشترى ما يعجبه منها .

ذهب مرة معي إلى الجامعة الإسلامية ، فرتبت له اجتماعا بالعديد من المسؤولين والأساتذة، أذكر أنه أدهش هناك أهل العلم الذين جمعهم المجلس  معه، حيث كان الشيخ -كما هو معلوم- صاحب ذاكرة نادرة وحافظة لاقطة واطلاع واسع على مصادر العلوم الإسلامية ..، إذ تطرق الحديث في المجلس إلى بعض علماء السلف، فذكر مزاياهم في تفصيل وإسهاب، ذكر من أسماء كتبهم وشروحها وأحوال مؤلفيها ما حيّر الحضور - وهم - طبعا- كانوا أهل العلم- وجعل وجوههم تنطق بإعجابهم الشديد بذاكرة هذا العالم الهندي وغزارة علمه وسعة اطلاعه على كتب الأقدمين .

صحبته - على ما أذكر- نحو أسبوع، وحصل بيني وبينه أنس وحب، وتآلف وتقارب، وأعتبر الأيام أو الساعات التي قضيتها معه من أسعد لحظات حياتي، وإن أنس فلن أنسى كيفية وداعه، فحينما جاء اليوم الأخير من إقامته في المدينة المنورة، حضر الشيخ المسجد النبوي ليصلي ركعتين، ويتشرف بسلام الوداع على صاحب القبر الأعظم صلى الله عليه وسلم، فكانت دموعه تفيض بغزارة  ، وكانت تعتريه كيفية عجيبة، تنطق بحزنه العميق على فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم، و رجع -بعد أن صلى وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ وسلامَ وداعٍ .. - إلى الوراء .. و وجهُه إلى المواجهة الشريفة (غير موَلٍّ ظهره إليها، ولعله كان يرى ذلك خلافا للأدب ) ... وهكذا رجع رويدا رويدا لا يكاد يغلب على دموعه، وتعتريه الرقة، وتأخذه حالة وجدانية عجيبة لا أكاد أصفها، رحمه الله وحشره مع حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم.

صلته بندوة العلماء

أما صلة الشيخ الجونفوري رحمه الله بندوة العلماء وأبنائها، فكانت صلة حب وتقدير واحترام، فإذا علم بوجود ندوي في مجلسه، أدناه منه، واحتفى به، وأوصى أصحابه به خيرا، وأما حبه واحترامه لرجل الندوة العظيم الإمام الندوي رحمه الله  فحدث عن البحر ولا حرج.. فقد كان يحبه حبا عظيما، ويعرف قدره، ويعترف بمكانته الجليلة، ولعله ورث هذا الحب من شيخه العلامة المحدث الكبير الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله الذي كان يحب الندوي حبا واحتراما يدلان على عظمة الأول - الكاندهلوي- نفسه، فمعروف أن الكاندهلوي كان يعرف للندوي فضله، ويوليه من الحب والاحترام والتقدير ما لا يوليه لغيره إلا قليلا ..، وكان يستكتبه المقدمات لمؤلفاته العربية مثل :" أوجز المسالك شرح موطا الإمام مالك "'و غيره من كتب الحديث.

وكان الجونفوري رحمه الله يزور -في بعض المناسبات- ندوةَ العلماء، ويفرح بلقاء طلابها وأساتذتها، ويوجه إليهم كلمات النصح والإرشاد، و من جانبهم كان طلاب الندوة وأساتذتها والمسؤولون عنها - هم الآخرون- يبادلون الشيخ حبا بحب، ويسعدون بزيارته، ويحترمونه احتراما يليق بمكانته، ولا يقصرون في الحفاوة به.

ومن تواضعه رحمه الله وحرصه على رفع إسناده، أنه جاء مرة قرية :" تكية كلان " -موطن الشيخ الندوي رحمه الله - لزيارة الشيخ، فاستجازه -في الحديث- فأجازه، رحم الله الشيخين الجليلين، فكان كلاهما عظيمين، وصالحين نفعا الأمة نفعا كبيرا، نسأل الله سبحانه أن يجزيهما عن الأمة خيرا .

تشبعه بحب النبي صلى الله عليه وسلم

لا أكاد أجد تعبيرا مناسبا لحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصه على اتباع سنته في كل صغيرة وكبيرة، سمعنا أنه رأى مرارا النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، وإذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمامه، فاضت عيناه دموعا، وكان على وسادته رسم نعلي النبي الكريم صلى الله وسلم، فكان يضع رأسه عليه، كما سمعنا أنه كان لا ينام على السرير، بل كان ينام -غالبا- على بساط تافه يفرش على الأرض.

إنه علّم وأصلَح وأرشد وهذّب وعبَد ربه حتى أتاه اليقين .

رحمه الله وحشره مع الصالحين من عباده .


(الاثنين : ٨ من ذي القعدة ١٤٤٤ھ = ٢٩ من مايو ٢٠٢٣م ) .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده