ذكريات وخواطر عن رحلة الطائف

من وحي الأيام

ذكريات وخواطر عن رحلة الطائف

محمد نعمان الدين الندوي 

لكناؤ،الهند 

                                                            

الطائف -كما هو معلوم- مدينة سعودية شهيرة، تقع في الغرب من المملكة العربية السعودية، وتبعد من مكة المكرمة نحو ٧٥ كم، وبينهما جسر طويل مرتفع جدا، تحيط بالطائف الجبالُ من جميع الجهات، وترتفع عن سطح البحر بمسافة تندرج ما بين 1700 إلى 2500 م، مما أكسبها جوا لطيفا، ومصيفا قديما للأهالي وللمدن القريبة .

زيارة الطائف الأولى:

 لا أدري لم تأخرت زيارتي للطائف كثيرا، مع حنيني إليها منذ أن بدأت أحن و أشتاق إلى زيارة المدن والأقطار التي تحمل أهمية دينية أو تاريخية أو غيرهما من النواحي، التي تغري الإنسان بشد الرحال إليها، للتمتع برؤية ما فيها من المعالم والأماكن والآثار؛ أو لمقابلة من فيها من أهل العلم والفضل والأدب، ومع توفر الأسباب وسهولة السفر إلى الطائف . . خاصة أيام كنت أدرس( بين ١٤٠٢ - ١٤٠٥ ھ ) في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وبعد التخرج منها -أيضا- لم أزل أتشرف بزيارة بلاد الحرمين الشريفين من حين لآخر، مع ذلك كله . . تأخرت زيارتي للطائف لقدر قدره الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا .

على كل . . زرت الطائف مرتين . . أولاهما في أوائل التسعينيات من القرن الماضي المسيحي، وكانت برفقة صحب كرام من أفاضل العلماء، وهم : الشيخ محمد حميدالدين عاقل الحسامي رحمه الله- مؤسس ورئيس الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ حيدرآباد، الهند، والشيخ عبد الرحمان القاسمي رحمه الله-  إمام أحد مساجد جده سابقا،  والشيخ محمد رحيم الدين الأنصاري رحمه الله- رئيس الجامعة السالفة الذكر، و الشيخ محمد عبد الرحيم بانعيم الحيدرآبادي - إمام مسجد بجده حاليا- ، وكانت  تلك الرحلة لزيارة الطائف ومعالمها فقط، ولم تتجاوز عدة ساعات، فقد كنا خرجنا من جدة إلى الطائف حوالي الساعة العاشرة ضحى،  وزرنا جامع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذلك المكان الطاهر الذي كان استراح فيه الرسول صلى الله عليه و سلم بعد معاملة أهل الطائف الشهيرة معه، ثم عدنا إلى جده .

زيارة الطائف الثانية:

أما الرحلة الثانية للطائف، فكانت قبل أكثر من عشرة أعوام ، وكان يرافقني فيها الشيخ محمد رحيم الدين الأنصاري رحمه الله .

كانت هذه الرحلة - أصلا-  لزيارة عالم الطائف الجليل و فقيهها الكبير  صديقنا الكريم فضيلة الشيخ الدكتور فهد بن سعد الجهني -أستاذ الفقه و الأنظمة بكلية الشريعة  بجامعة الطائف، و مستشار برآسة البحوث العلمية والإفتاء- الذي تربطنا به صلة مودة ومحبة نعتز بها، والحقيقة أن هذه الزيارة كانت استجابة لدعوته الكريمة التي كان تكرم بتوجيهها إلينا، حينما كان شرفنا بقدومه إلى حيدرآباد للمشاركة في بعض مؤتمرات الجامعة الإسلامية دارالعلوم حيدرآباد، فلما تشرفنا بزيارة الحرمين الشريفين في رمضان ١٤٣٣ھ  -على ما أذكر- اغتنمناها -أيضا- فرصة سانحة لقبول دعوة الدكتور الجهني لزيارة الطائف و مقابلة فضيلته، فاتصلنا به بعد وصولنا إلى المملكة، وأخبرناه باعتزامنا لسفرنا إلى الطائف، فأعرب الدكتور عن فرحه وترحيبه بذلك، وتوافقنا على موعد لزيارته في الطائف،  و وصلنا  إلى الطائف حسب الموعد المحدد، واستقبلَنا أحد تلامذته- الذي نسيت اسمه- على محطة الطائف، و أول ما وصلنا إليها، صلينا العصر في مسجد  محطة الطائف.

معالم الطائف؛

 ثم خرجنا قاصدين  بيت الدكتور الجهني، وقبل أن يتوجه بنا الأخ التلميذ المرافق الكريم إلى بيته، أرانا  معالم الطائف التي من أبرزها :

- و على رأسها - طبعا - ذلك المكان المبارك - من الحائط - الذي كان لجأ إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم واستراح فيه بعد ما لقي ما لقي من الأذى من أهل الطائف، ولا تزال توجد فيه آثار مسجد صغير بني على الطراز القديم .

-جامع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما

- مسجد حليمة السعدية

- سوق "عكاظ" التاريخي

- قصر "شبرا" التاريخي 

- مسجد السنوسي .

الوصول إلى بيت الدكتور الجهني:

 وفي الطريق إلى بيت الدكتور الجهني مررنا بأهم شوارع المدينة وأسواقها العامرة وحدائقها الجميلة،  وقبيل الغروب وصلنا إلى بيت الدكتور الجهني،  الذي يبدو قصرا رائعا، ويقع  في منطقة هادئة أرستقراطية من المدينة، وقبل أن ننزل من السارة وقع نظرنا على مضيفنا الجليل الدكتور فهد وهو يرحب بنا من شرفة بيته، مبتسما . . وملوحا بيده، و نزلنا من السيارة، وفي هذه الأثناء كان الدكتور أيضا وصل إلى الباب، وفور نزولنا من السيارة استقبلَنا، وعانقَنا وصافحَنا بحرارة بالغة وحفاوة عريقة،  وكرم عربي معهود، ثم دخلنا معه بيته الفخم ، وجلسنا في بهو مكتبته الواقعة تحت الطابق الأرضي، وتبادلنا الأحاديث الودية، و ألقينا نظرة على المكتبة الغنية بأهم و معظم  المصادر والمراجع الإسلامية،  وبأنفس وأغلى الكتب والمؤلفات في شتى الموضوعات، والمكتبة كانت تشهد- إلى مزاج الدكتور فهد العلمي - بذوقه النفيس اللطيف، فكانت الكتب مرتبة و منسقة كأحسن ما يكون الترتيب و أجمل ما يكون التنسيق، في منظر رائع بهيج يجذب الأنظار،  ويدعو -في جدارة-  إلى الإعجاب والإشادة، و جو يغري بالقراءة والكتابة،  ففي مثل هذا الجو الهادىء السعيد البعيد من الضوضاء والضجيج، يجتمع الهم، ويصفو الذهن، ويستريح الفكر و ينشط التدبر، وينعم التفكير، فتطيب القراءة و تثمر المطالعة، وينفع البحث والدراسة .

الدعوة إلى مائدة الإفطار:

خلال الحديث أخبرنا الدكتور الجهني بأننا- مع سعادته- مدعوون إلى مائدة الإفطار عند بعض الإخوان ممن تربطهم به صلة حب وأخوة، فبعد دقائق خرجنا إلى منزل الأخ الداعي الكريم، و في الطريق كان الدكتور الجهني  يعرّفنا بأهم المعالم والأماكن التي كان تمر بها السيارة التي كان يقودها الدكتور بنفسه، و هذا شائع  ومعروف في المملكة أن الرجل  -مهما كان ذا وجاهة ومنصب- يقود هو  سيارته، و لا يعد ذلك خلافا للمروءة أو المكانة الرفيعة، بالعكس  مما عندنا -في شبه القارة الهندية- ، فيعد مما لا ينبغي -بل ربما من العار- أن يقود رجل ذو مكانةٍ سيارته، و لكن المألوف -في هذا الصدد- في المملكة هو الأقرب إلى الطبيعة والصواب والمصلحة أيضا . . 

وخلال دقائق وصلنا إلى بيت الأخ الداعي الكريم، الذي وجدناه قائما خارج باب بيته، منتظرا قدومنا، فما إن رآنا حتى رحب بنا أحسن وأحرّ و أظرف وأمتع ما يكون الترحيب .

  الجدير بالذكر أن الأخ الداعي الكريم كان ظريفا فكها لطيف المعشر طيب الروح خفيف الظل ضاحكا ومضحكا . . ممن تزول بمصاحبتهم الهموم والأشجان، ويحصل السرور والفرح، فقد ظل - مدة جلوسنا معه- يريحنا ويمتعنا بطرفه الممتعة، ونوادره اللطيفة، وفكاهاته الحلوة.

على كل . . بعد أن رحب بنا الأخ، دخل بنا البيت و أجلسنا -مباشرة- على المائدة، لأن موعد الإفطار  كان قاب قوسين أو أدنى . . ، و كان الأخ الداعي الكريم قد دعا -أيضا-  عددا من أحبابه ومعارفه إلى الإفطار، سعدنا بلقائهم، وكانت المائدة مائدة عربية . . حافلة بأنواع وأنواع من الفواكه و الأكلات  الإفطارية الرمضانية العربية اللذيذة، والمرطبات والحلويات وما إلى ذلك . . ، و أفطرنا عندما سمعنا الأذان،  وأكلنا من صنوف النعم المبسوطة  على المائدة الفاخرة -من الطعام الهنيء بألوانه، والشراب السائغ بأنواعه- فذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله، ثم خرجنا إلى المسجد، وصلينا المغرب مع الجماعة، وكان الإمامُ أخانا الداعي الكريم، وبعد الصلاة عاد جميع المدعووين -مرة أخرى- إلى المائدة، فهذا  مما رأيناه من عادة  إخواننا العرب الكرام أنهم يتناولون شيئا خفيفا من الإفطار، ويذهبون إلى المسجد لأداء الصلاة، وبعد الصلاة يعودون -مرة أخرى- إلى المائدة، و الآن يتناولون منها بشىء من التأني والهدوء والراحة، فقبل الصلاة  الذهنُ يكون مشغولا بأداء الصلاة، وبعد الفراغ منها يصير خاليا مستريحا .. 

على كل . . عدنا إلى المائدة - والعود أحمد وأشهى وألذ- وبعد أن  أرضينا حاجتنا من المائدة، جاء الساقي فسقانا القهوة السعودية التي يُذكَر من فوائدها أنها تهضم الطعام وتزيل الدهن وتبعد التعب وتجلب النشاط، ثم أكرمونا بالبخور والعود، و هذا التطييب بالعود يؤذن بانتهاء المجلس، فمما قرأنا في ذكريات علي الطنطاوي - رحمه الله-  : " إذا دار العود فلا قعود " .

و قبل أن نستأذن الأخ الداعي الكريم، تفضل  فأهدى إلينا هدايا غالية، فقبلناها شاكرين له التفنن في ضيافته من الكرم العربي و الحديث الممتع و الخلق الجميل والإهداء الثمين، ثم ودعناه، وخرجنا عائدين إلى بيت الدكتور الجهني في سيارته وبصحبته الكريمة المشرفة.

وما إن رجعنا إلى البيت حتى بدأنا نستعد للعشاء والتراويح، فبعد قليل خرجنا إلى المسجد، حيث صلينا  العشاء  وعددا من ركعات التراويح -فيما أذكر- بإمامة شيخنا المضيف الكريم الدكتور الجهني حفظه الله .

لقاء الإخوان والمأدبة الفاخرة:

أبى  الدكتور الجهني العربي إلا أن يزداد كرما على كرم، وفضلا على فضل،  فتكرم  - بعد التراويح- بإقامة مأدبة العَشاء تكريما لضيوفهم، و دعا إليها كوكبة من علماء الطائف ووجهائها، وعددا من أقربائه وأحبابه، وحصل التعارف بيننا، فعرّف بعضنا بعضا، و هذا مما يعجبني من عادات العرب ومن شيمهم أن رجلا منهم إذا لقي أحدا لأول مرة، ولا يعرف بعضهما بعضا، بادر أحدهما بتعريف نفسِه صاحبَه، وتجاوب معه الآخر -كذلك- .

أما عندنا . . فنادرا ما يقع مثل ذلك . . ، فالرجل ينتظر أن يُعرِّف به أحد ممن يصاحبه، ولا يعرّف نفسه إلا إذا سئل ذلك، أو إذا شعر - هو نفسه- بأن الظروف تقتضي ذلك .

فبعد أن تم التعريف و التعارف، عرفنا أن المدعووين الكرام صفوة مختارة من أهل الطائف، تمثل جهات وانتماءات ومجالات شتى من العلم والأدب و الدعوة والدفاع، فبعضهم كان من المتقاعدين من القوات المسلحة السعودية، وسعدنا بلقاء هؤلاء الصفوة من أعيان الطائف ورجالها الأكارم  ، وتجاذبنا أطراف الحديث، وكان الإخوة الحاضرون حريصين - أشد ما يكون الحرص- على الاطلاع على أحوال إخوانهم من أهل الهند، فسألوا  عما يواجهون من القضايا وما يعانون من المشاكل، وعن  عدد الجامعات والمدارس، و مناهجها الدراسية، و.. و.. وما إلى ذلك من الأسئلة، التي تدل على بالغ حرصهم على التعرف على أحوال إخوانهم المسلمين الهنود والاهتمام بأمورهم، صادرين في ذلك عن  توجيهات دينهم :" من لم يهتم بأمر المسلمين، فليس منهم ". فأجبناهم، وطمأنَّاهم على أحوال المسلمين، فهم يمارسون عقيدتهم ومقتضياتها في حرية كاملة، و يشيدون المساجد، ويبنون المدارس و الجامعات، ويعينون مناهجها الدراسية  كما يشاءون، فالدستور الهندي يعطي كافة المواطنين الحرية الكاملة في اعتناق الدين و إنشاء المساجد  ودور التعليم حسب مقتضى المعتقدات والنظريات. 

 الحقيقة أن تعارفَ الإخوة وتلاقيهم واجتماعهم على منصة العقيدة والمحبة -في حد ذاته- نعمة أي نعمة . . وهذا التعارف ينطلق من المبدأ القرآني الجليل :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " .

لِيُسقَ عهدُكم عهدُ السرور فما

كنتم لأرواحنا إلا رياحينا ...!

فبهذا التعارف وبالتقاء الأحباب و اجتماع الإخوان   يطيب الأنس، و تتلاقى الأرواح : ( الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ) ويعذب الصفاء، وتكتمل الأخوة، وتزداد المحبة، وتشتد المروءة، وتقل الفواصل، وتتدانى القواسم المشتركة، وتتجدد المشاعر، وتتعمق الصلات، وتضيق المسافات، ويتم تبادل المعلومات وتتوسع، وتتلاقح الأفكار، ويتم الاطلاع على الهموم والأشجان، من بعضهم لبعض.

و الشكر - بعد الله - لمنظم هذا اللقاء الأخوي المبارك أخينا الدكتور الجهني، فيرجع إليه الفضل -بعد الله - في إتاحة الفرصة للاجتماع بهؤلاء الإخوان الفضلاء الكرماء والتحادث معهم، فجزاه الله خيرا. 

وكان مسك الختام - طبعا - لهذا اللقاء المثمر الخصب   : "مائدة العشاء الجُهَنٍيًّة" الدسمة الغنية بالكرم العربي العريق.

و أعظم ما يعجبني من عادات إخواننا العرب الاجتماعية : طريقة أكلهم، فهم يجلسون حول مائدة مستديرة، توضع في وسطها صينية، وعليها  الأكلة الرئيسية من الطعام المعد للمناسبة، ثم يتناول الجميع من هذه الصينية الواحدة ... ممثلين -في حالة الأكل أيضا-   النظام الاجتماعي  في الإسلام ، الذي أكد عليه ديننا الحنيف أشد ما يكون التأكيد، و ما الجماعة في الصلاة إلا رمزا من رموز الإسلام على حرصه على التجمع والتوحد والتآلف والتقارب، والحقيقة أن في هذا التجمع والتقارب يتجلى جمال الإسلام وعظمته وروحه الاجتماعية .

و مما يروقني - من آداب أكلهم - أيضا - أن اللحم لا يكون قطعا ومضغا، بل يُطْهَى الخروف كاملا وسالما ( طبعا . . بعد تنظيفه مما فيه من الأحشاء والأجزاء التي لا يجوز أو لايستساغ أكلها ) ويوضع -فوق الأرز- على السفرة مع عينيه ( اللتين تخيلان للناظرين كأنهما تَرَيان الآكلين و )  اللتين  تُقَدَّمان  - عادة- إلى من يتمتع بخصوصية بين الموجودين.  

و كان نظام الأكل لدى الدكتور  -طبعا- على هذه الطريقة العربية العريقة المتمثلة في الجلوس حول المائدة المستديرة، و كان -هناك- أكثر من مائدة - فيما أذكر -  لكون عدد المدعووين غيرَ قليل، وجلس الجميع حول الموائد، وتمتعوا بالأكل الشهي، في جو ضاحك ماتع، مترع بالفكاهات الطريفة و الأحاديث المستملحة والتعليقات المستعذبة التي كثيرا ما تجري بين الإخوان  في مثل هذه المناسبات السارة .  

وفي الختام شكر الجميع  الداعي الكريم الدكتور الجهني شكرا مزدوجا .. شكرا على جمعه هذه الصفوة المختارة من الإخوان، و على إضافته إياهم  بهذه المأدبة الفاخرة ، ثم رجعوا إلى بيوتهم :( فإذا طعمتم فانتشروا ) .

طقس الطائف:

أما نحن - والدكتور الجهني - فبدأنا الاستعداد لصلاة الفجر، وبعد الصلاة أوينا إلى الغرفة المُخصصة لنا، فاضطجعنا على فرشنا، والتحفنا بالبطانيات، حيث كان الجو باردا بقدر غير قليل، وكان الشهر شهريوليو أو أوائل أغسطس على ما أذكر . . ، وكان الطقس في الطائف كطقس أواخر نوفمبر عندنا في الهند ، ولم أر في الطائف المكيفات في أي مكان .. لا في البيوت و لا في المساجد و لا في غيرهما، و حتى المراوح . . لا أذكر أنني رأيتها في الطائف، بينما كانت معظم مناطق المملكة تعاني من شدة الحرارة، ما يذيب جلد الضب، وحتى مكة المكرمة -التي تقع على بعد ٧٥ كلو متر من الطائف فقط -  كانت تلتهب حرارة، فسبحان الله القادر على كل شيء . 

خصيصة رمضانية سعودية:

وهنا أجدني مدفوعا إلى أن أخص بالذكر خصيصة من خصائص رمضان المملكة، وهي أن ليلها - في الرمضان - يكون أروع وأجمل ما يكون، فأنت ترى في ليالي رمضان -هناك- من الحركة والبهاء والرونق والتجول العاديّ مثل نُهُر غير رمضان تماما، فالمساجد عامرة بالعابدين، والأسواق و المحلات التجارية والبنوك والمكاتب مفتوحة، والناس يتزاورون و يتلاقون، والشوارع مكتظة بالسيارات، وحركة المرور على أشدها، والأولاد يلعبون في الأزقة وأمام بيوتهم، فكأن الليل ينقلب نهارا تماما.

 أما النهار السعودي الرمضاني . . فأقرب إلى الليل غير الرمضاني منه إلى النهار،    فالحياة فيه - خاصة إلى الظهر - تضمحل وتفتر، والحركة تخف وتقل . . بل تكاد تنعدم و تتلاشى . .  فالأسواق وغيرها من المرافق والمصالح  مغلقة، و في بعض الأزقة والأحياء يبدو كأن فيها فرضا لحظر التجول، فليس بها داع ولا مجيب ولا أنيس. 

برنامج ثقافي:

في اليوم الثاني من ضيافة الدكتور الجهني حفظه الله، أفطرنا في بيته العامر، و بعد التراويح حضرنا برنامجا ثقافيا، ألقى فيه  الدكتور الجهني محاضرة قيمة حول موضوع يتعلق برمضان، وكان السامعون نخبة مثقفة من الأساتذة والطلاب ورجال العلم والأدب .

ثم ذهب بنا الدكتور إلى بيت والده الجليل -حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية- فتشرفنا بالسلام عليه و مقابلته، فانبسط لنا كاملا، وكان يتكلم معنا كأن هذا اللقاء سبقته اللقاءات ، مع أننا كنا نزوره لأول مرة، و هذا من سمات العرب وشيمهم التي تفضلهم على غيرهم . 

في بيئة ريفية:

  ثم عرج بنا الدكتور- في العودة إلى بيته- على أحد أصدقائه، الذي كان بيته - فيما -أذكر- في ضاحية من ضواحي الطائف، فكأننا كنا ندخل منطقة أشبه بالقرية منها إلى المدينة، وإذا بنا نرى -بعد دخولنا  سور منزل الأخ الذي كنا نقصده - ساقية -ناعورة- تسقى بها الحقول والمزارع، ففوجئنا بهذه البيئة الريفية الطبيعية الساحرة المنعشة للروح والذهن والقلب ، والمنظر -في الحقيقة-  كان منظر الحياة القروية تماما .. بنضرتها وخضرتها وهدوئها وهوائها العليل،  ورحب بنا شاب غض الإهاب، موفور الصحة و الشباب، كان أحد معارف أو أقرباء الدكتور الجهني،  وجلسنا -أمام منزل الشاب- في ساحة رحبة مفروشة بالسجاد الفاخر، نقر عيوننا برؤية  النجوم المتلألئة في السماء، و نتمتع بسحر البيئة الطبيعية الفاتنة،  و جمال المنظر الماتع، ونتنسم نفحات الهواء اللطيف، وأضافناالشاب الصالح الكريم بأنواع من المرطبات والفواكه، و إن أنس فلن أنسى  -منها- التين .. فوالله ما أكلت ألذ ولا أحلى منه -لا قبله ولا بعده -  في حياتي، ولو لا خفنا أن نتهم بالنهمة  لزدنا منه، وأرضينا حاجتنا من أكله.

الوداع:

و هذه الزيارة كانت  مسك الختام للزيارات والمقابلات التي سعدنا بها في الطائف، فبعد الفجر من الصباح القادم، كان من المقرر أن ننهي زيارتنا للطائف، ونودع الإخوة الطيبين، وعلى رأسهم- طبعا- أخانا المضيف الكريم الدكتور فهد بن سعد الجهني الذي غمرنا بكرمه، وذكرتنا ضيافته بقول الشاعر العربي :

يا    ضيفنا   لو زرتنا   لوجدتنا 

نحن الضيوف وأنت رب المنزل

أو كم قال شاعر عربي آخر:

ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم

تعاب بنسيان   الأحبة   والوطن

فلا شك أن ضيافة أخينا الجهني كانت أنستنا الأهل والوطن، ووجدنا عنده  من الحب والكرم ما لايوصف.

على كل . . ودعنا أخانا المضيف الكريم الجليل . . وكان الوداع شاقا، ودعناه و إخوانه وأحبابه، والطائف وأهلها الكرام كما يودع الإنسان أعز عزيز عليه وأحب حبيب إليه، ودعناهم ونحن نحمل ذكريات حلوة جميلة لا تنسى، وعواطف جياشة فياضة  يعجز هذا القلم العجمي القاصر عن تسطيرها.

حيا الله الأخ الجهني الكريم ابن الكريم ابن الكرام، وبارك فيه وجزاه خيرا، فلم يقصر أيما تقصير، بل زاد وأفضل وأكرم وآنس  . . و حيا الله جميع الإخوة الذين أكرمونا وعاملونا معاملة حب وكرم.

أما نحن فلا نملك إلا أن نشكرهم جميعا من أعماق قلوبنا، وندعو لهم بكل خير وسعادة. 

لم يكن   وصلك    إلا    حلما

في الكرى أو خلسة المختلس 

( المعنى - كما لا يخفى على القاريء الكريم- أن لقاء الأحبة كان جميلا، ولكنه مر سريعا كالحلم السعيد أو اللذة المختلسة ) .

( ليلة الجمعة : ٢٠ من جمادى الثانية ١٤٤٤ھ = ١٢ من كانون الثاني- يناير - ٢٠٢٣م ) 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده