جاحظ القرن العشرين : مصطفى صادق الرافعي - الحلقة (٢) الأخيرة

شخصيات أعجبتني

جاحظ القرن العشرين : مصطفى صادق الرافعي

الحلقة(٢) الأخيرة


محمد نعمان الدين الندوي 

لكناؤ، الهند

الرافعي وأوربا وأمريكا :


تحدثت في الحلقة السابقة عن خصائص أسلوب الرافعي، الذي أهدته إلينا مصر الغالية الزاخرة بعمالقة الأدب وأمراء البيان، فلها شكرنا وتقديرنا وتحياتنا، و في هذه  الحلقة سأتحدث عما قاله الرافعي عن أوربا وأمريكا .

أذكر هنا كلمتين أو أمرين مهمين تطرق إليهما الرافعي في الجزء الثالث من كتابه :"وحي القلم " ، وكلاهما يتعلق بأروبا وأمريكا، أول هذين الأمرين يمكن أن يصنف رأيا من آرائه، أو أملا من آماله الدينية والدعوية، التي تدل على رغبته الصادقة في انتشار نور الإسلام إلى الأماكن أو البلاد، التي لم ينتشر الإسلام فيها، أو قل : لم يوغل فيها، أو : لم يثبت فيها .

أما الأمر الثاني الذي ذكره الرافعي عن أوربا وأمريكا، فهو يمكن أن يسمى :"  تنبؤا  " دينيا مدعوما بالتجارب، ومبنيا على أساس الدراسة العميقة للكتاب والسنة، وتاريخ صعود وهبوط الأمم والشعوب، على( أن هذا الرأي/ التنبؤ) ليس جديدا، وإنما قال به الٱخرون - أيضا - قبل الرافعي وبعده .

وقد ذكر الرافعي هذا التنبؤ أو الرأي في معرض الحديث المشهور :"ليدخلن هذا الدين على ما دخل عليه الليل "، فقال بعد ما ذكر الحديث :

"وكأن العبارة نص على أن الإسلام يعم حين تظلم الدنيا ظلامها الشعري . . . إذا طمست الإنسانية بلذاتها، وأظلمت آفاقها الروحانية، فيجيء الإسلام في قوة أخلاقه كشباب الفجر، يبعث حياة النور الإنساني بعثا جديدا، وهذا هو رأينا في مستقبل الإسلام : لابد من انحلال أوربا وأمريكا، كما يصفر النهار ثم يختلط، ثم يظلم ثم تطلب الطبيعة نورها الحي من بعد" (١) .

هذا الذي ذكره  الرافعي من تفتت الولايات المتحدة الأمريكية وتمزقها وانهيارها كقوة عظمى . . ليس هو القائل الوحيد بذلك، بل قد ألفت في ذلك الكتب وأعدت الدراسات في أمريكا نفسها، وهذا - ارتفاع دولة وانهيار أخرى - وفق السنن الكونية { و تلك الأيام نداولها بين الناس} ، والأيام دول، ولبقاء الأمم وازدهار الدول سنن كونية إلهية، فإذا سارت الدول وفقها كتب لها البقاء والازدهار، وإذا طغت على سنن البقاء كتب لها الزوال (٢) .

هنا تذكرت كلمة قوية حماسية مؤمنة لأحد المشايخ  الكبار، ألقاها - في أوائل الثمانينيات من القرن المسيحي المنصرم في مركز تعليمي كبير  - وكأن صوت الشيخ - وقد توفي إلى رحمة الله - لا يزال يرن إلى اليوم  في أذني، وتطرق الكلام في كلمته إلى أمريكا والاتحاد السوفياتي -القوتين العُظميين المتنافستين آنذاك- ، وكانتا - حينما ألقيت الكلمة - في قمة جبروتهما وفرعونيتهما- وأشار الشيخ إلى ممارساتهما العدوانية وأفاعيلهما النكراء اللاإنسانية ... رغم ادعائهما التحضر وتشدقهما بالحقوق الإنسانية .. ، وأبدى غضبه الشديد وكراهيته البالغة لهما، حتى شبه إحداهما بـ " الكلب " ، والأخرى بـ:"الخنزير "، وقال - جازما بثقة المؤمن، وإيمان الواثق بوعد الله ووعيده - : "كأنني أرى - بعين بصيرتي .. وفي ضوء مطالعتي لتاريخ ارتفاع الأمم والدول وانهيارها -  زوال كلتا الدولتين الطاغيتين وانهيارهما .. ،  ثم عاد الشيخ رحمه الله وكرر وشدد على قوله، فقال : إن الدولتين لتسقطنانّ إن عاجلا أو آجلا .. وسقوطهما هذا .. لَيقَعَنَّ لا محالة بإذن الله .. ثم أخذه - الشيخ الراحل الخطيب - الحماس كل مبلغ،  وقال في شبه ثقة كاملة : إن الاتحاد السوفياتي قد يسقط قبل أمريكا .. ، ثم ذكر سبب ذلك قائلا :" إن النظام الشيوعي يكمم الأفواه، ويسلب الحرية، فكأن الاتحاد السوفياتي بلاد تحولت كلها إلى معتقل كبير، يعيش فيه الأسارى لا الأحرار .. وفرضت الرقابة على كل شيء، فلا حرية في التعبير عن الرأي، ولا حرية في التجول داخل البلاد نفسها، ولا حرية في ممارسة التجارة، ولا حرية في السفر إلى الخارج، فهذا النظام غير فطري، نظام جائر إلى أقصى الحدود، نظام يصادم الفطرة، ولا بقاء - طويلا - لنظام يعارض أويصادم الفطرة، فمثل هذا النظام مُعَرَّض - كل وقت - للانهيار والزوال ..". انتهى كلام الشيخ . 

وهكذا وقع بعد عشر سنوات فقط.. فصدق ما تنبأ به الشيخ مائة في المائة، وتفكك الاتحاد السوفياتي- ثاني قوتين عظميين - في أوائل التسعينيات،( في ٢٦ ديسمبر ١٩٩١م) وتبعثرت أجزاؤه. وتبخرت، وتفتتت تفتتا استبشر به الأحرار المنصفون، وهزم  النظام الشيوعي في مسقط رأسه، ومهده، ومعقله الرئيسي الأكبر{ فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم }[ النحل : ٢٦] ، ثم بدأ ضعف الدول الأخرى التي تتبع هذا النظام الفاشل، وقد صدق من قال : إن الشيوعية يوم بلا غد، وأرض بلا سماء، وعمل بلا خاتمة، وسعي بلا نتيجة.. 

أما أمريكا ..فقال الشيخ رحمه الله مشيرا إلى سبب إمكانية تأخر زوالها :" إن أمريكا يتمتع فيها الناس بالحرية( لا يغيبن عن البال أن الحديث حديث أوائل الثمانينيات من القرن الماضي المسيحي) ... بالحرية في ممارسة معتقدات وأعمال دياناتهم والدعوة إليها، وبالحرية في الجهر بما يريدون التعبير عنه من الأفكار والرؤى، وما إلى ذلك من بعض النواحي الإيجابية التي قد يمكن أن تلعب دورا في تأجيل زوالها، أما نفس الزوال والانهيار لأمريكا .. فذلك واقع لا محالة، لأنها تتحدى السنن الإلهية، وتطغى وتعيث في الأرض فسادا، وتظلم وتعتدي، والدول قد تمشي بالكفر، ولكنها لا تمشي بالظلم والطغيان ".

أما الأمر الثاني الذي سجله الرافعي عن أوربا وأمريكا في مقابله تحت عنوان :" رسالة الأزهر في القرن العشرين"، الذي تحدث فيه عن مكانة الأزهر الشريف وجلالة مسئوليته :

"وعندي أن الأزهر في زماننا هذا يكاد يكون تفسيرا جديدًا للحديث :" مصر كنانة الله في أرضه" ، فعلماؤه اليوم أسهم نافذة من أسهم الله، يرمي بها من أراد دينه بالسوء، فيمسكها للهيبة، ويرمي بها للنصر، ويجب أن يكون هذا المعنى أول معانيهم في هذا القرن العشرين، الذي ابتلي بملء عشرين قرنا من الجرأة على الأديان وإهمالها و الإلحاد فيها" (٣) .

ثم مضى الرافعي يفيض في الكلام عن واجب الأزهر في القيام بالدعوة إلى الله في مختلف أنحاء الأرض، وأكد على أن المراد بـ :" فرب مبلغ أوعى له من سامع"، هو : أوربا و أمريكا في هذا الزمن، فقال:

"ليس على الأزهر إلا أن يوجد من الإسلام في تلك الأمم ما يستمر، ثم الاستمرار هو يوجد ما يثبت، والثبات يوجد ما يدوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا في قوله:" نضر الله امرأ سمع  مني شيئا، فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى له من سامع " .

أما والله إن هذا المبلَّغَ الذي هو أوعى له من السامع، لن يكون في التاريخ بأدق المعنى إلا أوربا وأمريكا في هذا الزمن العلمي .. إذا نحن عرفنا كيف نبلغ "(٤) .

و هذا الذي رآه الرافعي ورجاه ... لا عجب فيه ولا غرابة، فما ذلك على الله بعزيز، فقد تتحول أوربا وأمريكا أرضا خصبة للإسلام والدعوة الإسلامية، والله يخرج الحي من الميت، وقد أخرج من التتار أبناء مخلصين للإسلام مدافعين عنه وحماة له، فأوربا وأمريكا التي تتصدر اليوم القوى المعادية للإسلام، قد تتحول غدا  مناطق مباركة يزدهر فيها الإسلام، وكثيرا ما نسمع أن الناس يدخلون هناك في دين الله أعدادا كبيرة،  والكنائس تتحول  مساجد ومراكز كبيرة للإسلام، وعلى المسلمين أن يتبنوا إستراتيجية جديدة حكيمة لنشر الإسلام في أوربا وأمريكا خاصة، حتى يتحقق حلم الرافعي واقعا ملموسا، يكون فيه خير للإنسانية جمعاء .


الهوامش

(١) وحي القلم : مصطفى صادق الرافعي ٦/٣ - الهامش - ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

(٢)عالجت موضوع السنن الكونية للبقاء والازدهار في تفصيل، راجع كتابي: صدى القلم ، ص ٤١.

(٣)وحي القلم، ٣٨/٣ .

(٤) أيضا: ٤٣ .


( الجمعة : ١٤ من شوال ١٤٤٤ھ = ٥ من أيار -مايو-٢٠٢٣م) . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده