جاحظ القرن العشرين : مصطفى صادق الرافعي - الحلقة (١)
شخصيات أعجبتني
جاحظ القرن العشرين : مصطفى صادق الرافعي
الحلقة (١)
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
خصائص أسلوب الرافعي :
مصطفى صادق الرافعي ( ١٢٩٨ - ١٣٥٦ھ = ١٨٨٠ -١٩٣٧م) ليس من أدباء مصر المشهورين فقط، بل من أبلغ الأدباء العرب وأمراء البيان العربي ( في العصر الأخير ) الذين تعتز بهم العربية نفسها، مثلما يعتز به أبناؤها ومحبوها .
فكتبه هي الدر النثير والنور المطير، وكلامه الخمر الصرف، والسحر الحلال المحلى بأسلوب عال متميز بخصائصه وروائعه وبدائعه، التي تجعل صاحبها شامة بين معاصريه .
نعم . للرافعي أسلوب فذ متميز قوي رائع جدا جدا ..، يحيِّيه الذوق العربي إكبارا وإعظاما، ويهتز له الوجدان الأدبي تذوقا، ويحرص المعجبون به على تقليده حرص المتنافسين في شيء نادر فريد .
إنه كلام - كلام الرافعي - تكاد تبدو جميع كلماته وجمله مصوغة في درر وجواهر بيانية تهز الإنسان هزا، ومصبوغة بصبغة فنية جمالية تترك القارىء المتذوق في حالة من الطرب والاهتزاز، والرَّوح واللذة والإعجاب، لا نكاد نجد لها وصفا، وعنها تعبيرا ...، فهو كلام وراءه مدد من الله، واقتباس من نور القرآن الكريم وأدبه وبلاغته، وفطرةٌ عربية أصيلة، وتَمَكُّنٌ من العربية ، وامتلاكٌ لناصيتها، وطولُ مراسٍ لأساليب بلغائها، وعمق نظر في بديع كتاباتهم .
وأسلوب كلامه أسلوب عربي مبين، لا يستسيغه ولا يتذوقه، ولا يستعذب طعمه، ولا يستطيب مذاقه، ولا يدرك جماله الفني، ودقته المعنوية، وصياغته الأدبية العالية، إلا من أوتي ذوقا بيانيا عربيا خالصا، وسليقة عربية طبيعية، وحظا وافرا من الإلمام بالكثير من علوم العربية وخصائصها .
فلسبب ما وصف الزعيم المصري العظيم سعد زغلول كلامَ الرافعي بأنه:" بيان كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم " ۔
إي والله ! إنه كلام - كلام الرافعي -يستمد جماله وجلاله وعظمته وسموه وروحه من آفاق القرآن الكريم، ومن أساليب بلغاء العرب الأولين .
أسلوبٌ - أسلوب الرافعي - إن هضمه هاضم .. - إذا ساغ هذا التعبير - كاد أن يفضله على أساليب غيره من معظم الأدباء المعاصرين ( إن لم أقل : جميعهم ) ، وسُحِر به سحرا، وافتتن به افتتانا، فلم يعدل عنه أسلوبا، ولم يبغ به بدلا " ( فليس نور السُّهى كنور القمر ) ..
لعل هذا قد يعتبرمبالغة أو مجانبة للصواب في وصف أسلوب الرافعي، فربما يقول البعض من القراء، قد غلا الكاتب - الفقير إليه تعالى - في مدحه لكلام الرافعي، وجاوز الحد في تقديره، ولكنه رأيي النابع عن اقتناع، و المُنبَني على معايشة لكتابات الرافعي وسياحة طويلة فيها . . ولا أكره أحدا على قبوله أو تبنيه، على أن لكلٍ الخيارَ والحريةَ في قول ما يراه صوابا، ولا معابة عليه في الجهر بالذي يراه حقا ..
أنا أعرف أن البعض يصف أسلوب الرافعي بأنه أسلوب غامض مستغلق معقد، يستعصي فهمه على القراء، ولا يتبين معناه إلا بعد لأي .. وكد وجهد جهيد .
ولكنني لا أؤيد هؤلاء الواصفين الذين لم يوفقوا في هذا الوصف، وخانهم التوفيق فيه .
بل الحقيقة أن جمال أسلوب الرافعي، وروعته، ودقته، وفنيته، وبلاغته، وحيويته، وطلاوته، وجزالته، وسموه، بـ :" مكان " لا يصل إليه الشادون .. من الذين لا يعرفون من العربية إلا بعض الخرزات والأصداف الفارغة الطافية على السطح، ولا عهد لهم باللآلي والدرر والجواهر - من بحر العربية الزخار- التي لا يمكن التقاطها إلا للغواصين في أعماقها .
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواصات عن صدفاتي
إنه -الرافعي- كان مُنِح قلما بارعا، يعرض الفِكْر عرضا حيا، ويشرحه شرحا ناطقا، فيبدع في العرض والوصف والتصوير كأجمل ما يبدعه مصور عبقري، وكأروع ما ترسمه ريشة فنان نابغة، وكأنه يجسد الفكر تجسيدا، فتراه - الفكرَ المعروضَ بقلم الرافعي - شاخصا حيا قائما بذاته .. كأنك تراه بالعيان، وتلمسه بالبنان .. بعد أن تذوقت جمال عرضه، وشعرت بأثره بالوجدان، فسبحان من علمه هذا البيان ..
يحلو لي هنا أن أمتع القارىء الكريم بوصف الرافعي للكلام النبوي والأسلوب النبوي - على صاحبه الصلاة والسلام - فوالله إنه لوصف لم يخطر -فيما أعتقد- لأديب ولا كاتب ببال، وصف رائع يبهرك جماله، ويدهشك حسنه، ويأخذ بلبك تحليله -تحليل الأسلوب النبوي- ويحصد إعجابكَ الابتكارُ -الذي لم يُسبَقْ إليه- في الوصف والتحليل العجيبين الرائعين، فليتمتع القارىء الكريم بما قاله الرافعي عن الكلام النبوي واسلوبه :
"فكلامه صلى الله عليه وسلم يجري مجرى عمله، كله دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة، وإنه يخيل إليّ -وقد أُخِذت بطهره وجماله- أن من الفن العجيب أن يكون هذا الكلام صلاة وصياما في الألفاظ.
أما أسلوبه صلى الله عليه وسلم فأجد له في نفسي روح الشريعة ونظامها وعزيمتها، فليس له إلا قوة .. قوةَ أمر نافذ لا يتخلف، وإن له مع ذلك نسقا هادئا هدوء اليقين، مبينا بيان الحكمة، خالصا خلوص السر، واقعا من النفس المؤمنة موقع النعمة من شاكرها، وكيف لا يكون كذلك ؟! وهو أمر الروح العظيمة الموجهة بكلمات ربها ووحيه، ليتوجّه بها العالمُ كأنه منه مكان المحور : دورته بنفسه هي دورته بنفسه وبما حوله، روح نبي مصلح رحيم، هو بإصلاحه ورحمته في الإنسانية، وهو بالنبوة فوقها، وهو بهذه وتلك في شمائله وطباعه مجموع إنساني عظيم، لو شبه بشيء لقيل فيه : إنه كمجموع القارات الخمس لعمران الدنيا " (١) .
وَعزَّةِ الله ... الذي أعز الإسلامَ والعربيةَ بقلم الرافعي، وفجَّر ينابيع العلم والفضل و الابداع من قلبه و بنانه، أنني لا أشعر لدى قراءة كتابات الٱخرين - على تقديري لهم - بما أشعر به من كيفية عجيبة من الاعتزاز والانبهار والإعجاب والتأثر حينما أقرأ للرافعي، فأشعرحينما أقرأه كأن على قلم الرافعي مسحة أو أثرا من ذلك القسم الذي أقسم به الله في كتابه الأخير :{ ن والقلم وما يسطرون } .
لو حالفني الحظ بلقاء الرافعي، لقبلت قلمه قبل يده، وقبلت يده -التي كان يمسك بها القلم- قبل جبينه.
فقلمه كان ذلك القلم المبارك، الذي دافع به عن القرآن، وناضل وصاول وأفحم المشككين فيه، و - بقلمه ذاك - كشف الأسرار عن البلاغة النبوية والبيان النبوي، وأثبت فضله على سائر الكلام البشري، و كتب - ما كتب - من السحر الحلال والعذب الزلال .
صحيح أن :" قلم الرافعي" كان وراءه عقله وفكره وموهبته الإبداعية .. ولكن الذي كان يسطر به ويقيد وينثر اللآلي والجواهر :"القلم".. ، والحقيقة أن القلم رمز ودلالة وأداة لصيانة وتقييد وتخليد ما تجيش به الصدور، وتفيض به العقول، وما تُلهَم الأذهان من الأفكار والرؤى وبدائع الخيال.
فلو لا القلم، لما أمكن تقييد بنات الأفكار وقرائح العقول الأبكار، ونتائج الأذهان العبقربية .
إن الله سبحانه وتعالى كان أعطى الرافعي القدرة على أن يقول في جملة واحدة ما لا يستطيع غيره أن يقوله في صفحة .. بل صفحات، فكل جملة من جمله قد تحمل سعة البحر وعمقه، أو قل : تحمل إشارات ورموزا .. تحمل - هي- في طياتها كثيرا من المعاني والدلالات .
فلله در صاحبنا الذي أوتي هذا القلم، ومنح هذا الأسلوب، وأعطي هذا البيان، وسبحانه من خصه بهذه الخصائص والمميزات، والله ذو الفضل العظيم .
نظرا إلى هذه الخصائص لأسلوب الرافعي، التي أشرت إليها، وُصِف بـ :" حجة العرب" و :" إمام الأدب " و :" نبي الكلمات" ... و ما إلى ذلك ، وقد قال الرافعي نفسه عن نفسه :" ثم يخيل إلي دائما أني رسول لغوي، بعثت للدفاع عن القرآن ولغته " ۔
ومما أعجبني من أقواله :" أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة، لا أعمارنا ولا حُظُوظنا" ، و - أيضا - :" إن لم تزد في الحياة شيئا تكن أنت زائدا على الحياة " .
و قبل أن أختم هذه الحلقة عن الرافعي، أحب أن أنقل إلى القرء قطعتين رائعتين صدرتا عن قلم الرافعي، إحداهما عن أفضل أجيال البشر، جيل الصحابة الأغر، والثانية عن أفضل مكان : مهبط الوحي والقرآن .
فإليكم أولا : ما قاله الرافعي عن الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين :
" ... فكانوا ناسا إن عبتهم بشيء، لم تعبهم إلا أنهم دون الملائكة، وكانوا ناسا، دارت الكرة الأرضية في عدهم ثلاث دورات : واحدة حول الشمس، وثانية حول نفسها، وثالثة حول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " (٢) .
وفيما يلي ما قاله الرافعي عن مهبط الوحي :
"إن ههنا دنيا الصحرا، ستلد الدنيا المتحضرة التي من ذريتها أوربا و أمريكا، فالقرآن والحديث يعملان في حياة أهل الأرض بنور متمم لما يعمله نور الشمس والقمر" ( ٣) .
نختم هذه الحلقة الخاصة بأسلوب الرافعي بما قال عنه مفكر مصر الأكبر في العصر الحديث الأستاذ محمد عبده، في رسالة وجهها إلى الرافعي، وكفى بذلك شهادة وشرفا .. فكتب يقول :
"ولدنا الأديب الفاضل مصطفى أفندي صادق الرافعي : زاده الله أدبا .
لله ما أثمر أدبُك، ولله ما ضمن لي قلبك، لا أقارضك ثناء بثناء، فليس ذلك شأنَ الآباء مع الأبناء، ولكني أعُدُّك من خلص الأولياء، وأقدم صفك على صف الأقرباء، وأسال الله أن يجعل الحق من لسانك سيفا يمحق الباطل، وأن يقيمك في الأواخر مقام حسان في الأوائل .
والسلام .
٥ شوال ١٣٢١ھ محمد عبده " (٤) .
الهوامش
(١) وحي القلم: مصطفى صادق الرافعي ٩/٣
دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
(٢) أيضا: ٦/٣
(٣) أيضا
(٤) أيضا: ٩/٣
(الأربعاء: ١٢ من شوال ١٤٤٤ ھ= ٣ من أيار -مايو- ٢٠٢٣م ) .
تعليقات
إرسال تعليق