الأستاذ محمد الحسني في محراب البيان العربي
شخصيات أعجبتني
الأستاذ محمد الحسني في محراب البيان العربي
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
في كَفِّه أخرسُ ذو منطق
بـقــافـه والــلام والمـيـمِ
شِـبْــر إذا قـيـس ولـكـنـه
في فعـلــه مثـلُ الأقالـيمِ
سبحان من يهب من يشاء ما يشاء وقدر ما يشاء، وعنده خزائن السماوات والأرض .
«كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورًا» .
إن الذي يقدر على أن يخلق إنسانًا بدون أن يمس أمَّه بشر ..
لقادر على أن يهب (عجميًّا) قلمًا فصيحًا وبيانًا مشرقًا وأسلوبًا عربيًّا خالصًا، قلمًا فاق أقلامَ الكثيرين ممن رضعوا بلبان (العربية) في أحضان الأمهات العربيات الخالصات الأنساب، وتربوا في قلب البيئة العربية التي لا تشوبها أي شائبة من شوائب العجمة أو الاختلاط، وتعلموا على أيدي المعلمين العرب العرباء.
فإن تَفُـقِ الأنـامَ وأنت منهم
فإن المِسكَ بعضُ دمِ الغزالِ
(المتنبي)
وكما قال آخر:
ليـس علـى الله بمسـتنكر
أن يجمع العالم في واحد
(أبو نواس)
كذلك ليس مستغربًا أن يفوق عجميٌّ الناطقين بالعربية فصاحةَ لسان، وإشراقةَ بيان وروعةَ كلام.
وليس في ذلك أدنى انتقاص لأهل اللغة الأصلاء الكرام، أو شعور بالتفاخر أو التفاضل فضلًا عن التفضيل لأحد على آخر، بل شهد بما نقول، العربُ أنفسهم، والعرب أمة تمتاز برحابة الصدر وسعة الذهن والقلب عن غيرها من الأمم والشعوب؛ فهي أمة تعترف بالفضل لأهله، ولا تبخس الحق لصاحبه، ولا تطفِّف بالمكيال، بل تعطي كل ذي حق حقه وتُوَفِّيه.
نعم. لقد شهد بـما أوتي صاحبنا من « بسطة » في الأدب والبيان ، الكثيرُ من أبناء العربية الأفاضل، واعترفوا بفضله وسحر بيانه.
هو محمد بن علي بن عبد الحي الحسني والد الشيخ أبي الحسن الندوي رحمهم الله جميعًا.
فـ: «هذا الشبل من ذاك الأسد»،
والشيء من معدنه لا يستغرب «كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها».
صاحبنا الأستاذ محمد الحسني (١٩٣٥م - ١٩٧٩م) كان محاطًا بـ: «السعادة» من أطرافها الأربعة، أو غارقًا في "محيط السعادة" ، إذا صح هذا التعبير الأردي في الكلام العربي.
فنسب أصيل، وحسب جليل، وتربية طاهرة، وبيئة عريقة، وبيت كريم.
إذا كان أحد يحظى بمثل هذه الخصائص؛ فما أحراه بأن يكون محمدًا الحسني أو مثله أو قريبا منه!
أما النسب العالي الشريف الذي ينتمي إليه صاحبنا، فماذا أقول عنه ؟
إنه نسب أطهر وأفضل من جميع الأنساب؛ لأنه -النسب- يتصل بأزكى وأطهر بيت في الوجود، بيت النبوة الطاهر الأطهر المختار البيت الذي يبتدئ منه الطهر وإليه ينتهي «ويطهركم تطهيرًا»
أما الحَسَب فحَسَبُ الأمجاد والفضائل والمكرمات.
أما البيئة فبيئة الرشد والصلاح والتقى.
أما البيت فبيت العلم والدين.
أما التربية فحدث عن البحر ولا حرج.
فهي التربية المُثْلى .. تربية العم «أبي الحسن» -الذي كان أعطي مفتاح الكعبة المشرفة أكثر من مرة- أحد أعلام الإسلام عبر تاريخه المجيد.
يقال: «فلان صنو أبيه» أو «سر أبيه».
ولكن صاحبنا (محمدًا) كان «صنو عمه» -أبي الحسن- فكان صورة مصغرة كاملة للنسخة العلوية «أبي الحسنية» أو قل: كان-صاحبنُا- نسخة مخطوطة أصلية نادرة، دبجها يراع أبي الحسن.
نعم كان -رحمه الله- شبيهًا بعمه (في الخلق والذوق والمزاج والعادات حتى في أسلوب الكتابة وتأثيرها) شبهًا يراه الناس بالعيان، بل يكادون يلمسونه بالبنان، وكان -فيما أعلم- أحب الأقرباء إلى عمه الجليل، وأعزهم عليه، وأكثرهم اعتزازًا بشخصيته، وتشبعًا بحبه، وتشربًا لفكره، واهتمامًا بنشره، فكأنه -صاحبنا- كان مطبوعًا بحب عمه، مفطورًا عليه، مدفوعًا -عن طواعية ورضا واقتناع- إلى السير على منهجه، وتقليده ومحاكاته في جميع مسارات حياته، شأن الأبناء البارين الذين يحرصون على الاقتداء بآبائهم وكبارهم، وأساتذتهم ومربيهم، والائتساء بأسوتهم (فبهداهم اقتده).
* * * * *
خصائص أسلوبه، ومجلة البعث الإسلامي
أكاد أحار وأنا أريد وصف أسلوبه، كيف أصفه، وبماذا أصفه؟
فإذا قلتُ : إن أسلوبه: «قوي» أو «رائع» أو «جميل» لم أصفه حق وصفه؛ لأن أسلوبه كان «أقوى» من القوي، و«أروع» من الرائع، و«أجمل» من الجميل.
الحقيقة أن أسلوبه كان نسيج وحده؛ فقد آتاه الله بيانا يكاد يكون فريدًا وحيدًا، بيانًا ناصعًا، وأسلوبًا عربيًّا أخاذًا، مشرق الديباجة، سهل العبارة واضح الفكرة، ينطلق في إحكام وتسلسل في ألفاظ منتقاة، تجيئه عفوًا بدون روِيَّة أو إعمال فكر، وبلغة سليمة وجمل رشيقة.
سمعت أن المسؤول عن طبع مجلة :«البعث الإسلامي»، كان يراجعه من حين لآخر، ويقول: يا أستاذ! يتأخر صدورُ المجلة إذا تأخرتْ «افتتاحيتُك»، فيجيب: لم يبدأ النزول -أي قدوم الأفكار في الذهن- بعد...! فبينما يكون في اجتماع أو مجلس.. إذ -فجأة- ينتحي ناحية، أو يستأذن الإخوان فيخرج، ويجلس في مكان أكثر هدوءًا، وبعدًا عن الصخب، ويبدأ بالكتابة، فإذا بالأفكار والمعاني تنهال عليه، والألفاظ والتعبيرات تأتيه خاضعة مطيعة، وما هي إلا دقائق حتى يُكْمل :«الافتتاحية» ، ولا يعيد النظر فيها ولا يُعدِّل فيها، ولا ينقص أو يزيد، ولا يشعر بحاجة إلى وضع اللمسات الأخيرة، بل يسلمها -رأسًا- إلى الأخ المسؤول عن الطبع، فتطبع، وتنشر في المجلة، فإذا هي آية في الروعة البيانية والجمال الأدبي، والعرض الشيق، والصياغة المحكمة، والفكرة النيرة، وكأنها- الافتتاحية- كانت مرت بمراحل من إعادة النظر والتعديل والتنقيح والتهذيب، ولكن أمرها كما مضى، وهكذا كان شأن صاحبنا في جميع أو معظم افتتاحياته وكتاباته عفوَ الخاطر، فيضَ الساعة، صادرة عن بَداهة وارتجال بدون سابق إعداد أو إتعاب ذهن، وتلك ميزة لا يمتاز بها إلا النوادر من الكتاب.
كان -رحمه الله- صاحب القلم الدفاق المؤمن الجريء، وكاتبًا ثائرًا بكل معنى الكلمة ثائرًا على الطغيان والظلم والعدوان، وعلى النظريات الباطلة؛ فكفاحه في مواجهة فتنة (القومية العربية) معروف، فقد صاول وناضل في هذا الميدان غير مقصر ولا متخاذل، وإذا لم يكن له في التصدي لهذه الفتنة الفاتنة نصيبُ المجلي، فليس بأقل من نصيب المصلي.
كان قلمه نورًا ونارًا وسحرًا حلالًا، ورب قلمٍ أمضى وأفصح وأنطق من اللسان! ولا شك أن صاحبنا كان ممن أوتي هذا القلم!
مضى على كتاباته أكثر من نصف قرن، ولكنها تبدو جديدة ناضرة نابضة بالقوة والحرارة والحيوية، وكأنها كتبت حاضرًا؛ وذلك لأنها خرجت من قلب مخلص محب للدين، وصدرت عن قلم قوي أمين.
الإسلام الممتحن:
صاحبنا (محمد الحسني رحمه الله) لم يكن من مكثري التأليف، ولعل سبب ذلك أن المنية اغتالته وهو لم يتجاوز مرحلة الشباب، ولكن كتبه القليلة تحمل من القوة والإبداع والتأثير ما قد لا يكون للكتب الكثيرة، فالعبرة بالكيفية لا بالكمية «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله».
ولعل أبرز كتبه العربية :«الإسلام الممتحن» الذي يضم أروع "افتتاحياته" وأقواها لمجلة :« البعث الإسلامي»، التي كان أنشأها وهو في العقد الثاني من عمره.
هذا الكتاب: (الإسلام الممتحن) صديق عمري، أطالعه منذ أكثر من أربعين سنة، وكلما قرأته ازددت شغفًا به، واستمتاعًا به واستفادة منه، وكلما أردت الكتابة في موضوع هام، قرأته، فيسعفني إسعافًا؛ فيواتي الطبع، و تطاوع القريحة، وينفتح الذهن، وينطلق القلم، وتأتي التعبيرات والأفكار عفويا، وجربت ذلك مرارًا وتكرارًا، والحقيقة أن هذا الكتاب فضله عليَّ عظيم، ومنته عليَّ كبيرة، فقد نفعني نفعًا لا أستطيع وصفه، وإنني إذ أحكي تجربتي الشخصية مع هذا الكتاب، لأهيب بالطلاب والشباب أن يجعلوا هذا الكتاب من كتبهم الخاصة التي يلازمونها ويتأبطونها؛ فهي حرية بأن تكون من الكتب التي يُحرص على قراءتها مدى الحياة.
فهكذا كان سلفنا يفعلون، كما قرأنا أن الإمام الشافعي رحمه الله -مثلًا- قد بدأ بالموطأ فأتقنه، وقال المزني -أحد تلاميذ الشافعي الذين لازموه بمصر- " أنا أنظر في كتاب (الرسالة) للشافعي منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه مرة، إلا وأنا استفيد شيئًا لم أكن عرفته.
ثم استفاد هذه القاعدة أبو العباس بن سريح، ولكنه أتقن كتاب :«المزني»، فأدمن على القراءة فيه ومطالعته (عشرين سنة في جيبه) حتى قال فيه:
صديق فؤادي منـذ عشرين حـجـةً
وصيقـل ذهنـي والمفـرِّج عن همي
عــزيـز عـلـى مثـلـي إعــارةُ مثـلـهِ
لما فيه من نسيج لطيف ومن نظم
جمـوع لأصـنـاف العلــوم بأسـرهـا
وآيـتــــــه أن لا يفــــارقـــــه كمي
* * * * *
كما أشرت أن صاحبنا توفي وهو في مرحلة الشباب.
توفي وصيته بلغ الجوزاء، وقلمه في قمة العطاء، فكان كمثل نجم تألق ثم هوى.
فالقلم وصاحبه كان كلاهما شابين شبابا مرجوا واعدا بالكثير والكثير، ولكن أمر الله كان قدرا مقدورا .
مات وكان مكتمل الصحة، موفور الشباب إلى صبح يوم وفاته،
طواه الموت والعالم الإسلامي والعربي بأشد حاجة إلى قلمه النقي وبيانه المشرق وصوته الجريء.
مات فإذا بالقلوب تهلع، وبالعيون تدمع، والساحة الإسلامية تحزن.
كانت وصلت مجلة (البعث الإسلامي) في عهده، إلى المقدمة بين المجلات العربية لا في الهند وحدها، بل في العالم العربي أيضًا، وكانت تُنتظر لدى مطلع كل شهر لافتتاحياتها القوية البليغة التي -كأنها- كانت تكتب مرصعة بالياقوت والمرجان من الكلمات الجميلة الممتعة والتعبيرات الفذة الساحرة، فتملأ القراء حرارة وحماسة، بل كأنها تكهربهم وتشحنهم عاطفة واندفاعًا، وتهزهم هزًّا، وتجعلهم يطربون التذاذًا بسحرها البياني، أو بيانها الساحر، وذاكرتي لا تزال تحتفظ ببعض العناوين الطريفة لبعض مقالات صاحبنا مثل «مش معقول، مش ممكن»، و« لا مرحبًا بك يا معمر القذافي»، وغيرها من المقالات والكتابات التي كانت تحرك العواطف والمشاعر، وتلهب جلود الطغاة، وتشوي وجوه الجبابرة، وتقض مضاجعهم، وتؤرق ليلهم، وتفضح باطلهم.
إن من يملك القلم اللاهب كالسوط، والبيان المشرق كالنهار، والغيرة الدافقة كالنهر، لخليق أن يكون في طليعة الكتاب، ولجدير بأن يتخذ الشباب والطلاب أسلوبه نموذجًا لهم في الكتابة والإنشاء والأدب، حتى يكون لكتاباتهم -أيضًا- جمال وقوة وأثر.
محراب البيان العربي
إنه - صاحبنا محمد الحسني وأمثاله - لدليل على أن الأرض الهندية -البعيدة آلافا من الأميال عن الجزيرة العربية- ليست عقيما، بل إنها مخصبة للرجال، قادرة على أن تنجب- بفضل الله- من يضارعون أبناء العربية فصاحة وبلاغة بشهادتهم هم .. !
ولم يدخل صاحبنا «محراب البيان العربي» إلا ببعض ما أشرت إليه من الخصائص البيانية التي كان ربنا خصه بها، ومعلوم أن هذا المحراب العظيم لا يدخله كل من هب ودب، كل من حمل قلمًا، أو ألقى خطبة، أو ألف كتابًا أو كتبًا بالعربية.
ألا .. لا يتبوأ المكانة في محراب البيان العربي، إلا أمراء البيان العربي، إلا ملوك الكلام من مملكة «الضاد» العظيمة، من أمثال الأصمعي، والمتنبي، والجاحظ، والتوحيدي، وابن خلدون، والطنطاوي، والرافعي، والندوي، وغيرهم.
حقًّا .. لقد آتى الله صاحبنَا من البيان العربي بالقدر الذي يؤهله لدخول: «محراب البيان العربي» مكرمًا محترمًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
* * * * *
قضاء دَين
وبعد فهذه سطور سطرت بمداد حب ووفاء، وتحية وتقدير وعرفان بالجميل.
وما أنا بالباغي على الحب رشوة
ضعيـف هوى يبغـى علـيه ثواب
سطور متواضعة كانت دَيْنًا عليَّ لصاحبي منذ زمان.
فأردت بها قضاء هذا الدين .. دَين الحب والوفاء والاعتراف بالفضل، وإن كنت أعتقد أن هذا القضاء - إلى كونه قضاء متأخرا- قضاء قاصر، ليس على ما يرام، ولا متكافئًا لقدر الدَّين، بل دونه بكثير.
ولكنه على كل حال قضاء بالقدر المستطاع.
و«لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»
وما لا يدرك كله لا يترك جله .
«إن لم يصبها وابل فطل»
* * * * *
حسن الحظ
من حسن حظي أن القسم الذي أعمل فيه بندوة العلماء، يحظى بإشراف مباشر من نجل صاحبنا/ أخينا المفضال العالم الجليل الشيخ بلال عبد الحيّ الحسني -حفظه الله- فأقول في نفسي: لعل هذا -عملي تحت إشرافه- من ثمرات حبي والدَه رحمه الله، ولتظل علاقتي به متصلة متجددة بشرف الارتباط -من خلال عملي في الندوة- بالنجل الكريم الذي يصدق عليه «الولد سر أبيه»؛ فهو خير خلف لخير سلف، بارك الله فيه، ومتعه بالصحة والعافية، ونفع به الأمة .
ومما يجدر بالذكر -أيضًا- أن صاحبنا -رحمه الله- كان من أقرب أقرباء عميد الأسرة الحسنية سماحة الشيخ محمد الرابع الحسني الندوي حفظه الله؛ إذ كان ابن خال شيخنا محمد.
حفظ الله شيخنا ومربينا الجليل الوالد الشيخ محمد الرابع، وأطال بقاءه في صحة وعافية؛ فإن وجوده بركة، وهو الذي تُجمع الأمة الإسلاميةالهندية -بكافة شرائحها وفئاتها واتجاهاتها- على قيادته الحكيمة.
* * * * *
الكلمة الأخيرة
لعل البعض يظن أنني بالغت في وصف صاحبنا الأستاذ محمد الحسني رحمه الله بما وصفت؛ فوالذي قبَّح التزيد، ونعى على التكلف، وحرم القول بغير الحق، ما أتيت بأية مبالغة، ولا أدنى مبالغة، ولا قربتها ولا مسَسْتُها، ولا حمت حول حماها، بل قلت بما صح عندي وتأكد، وبما رأيت وسمعت، وبما علمت واقتنعت، وقرأت واستفدت.
والله على ما أقول وكيل..
( الجمعة : ٢٤ من شعبان ١٤٤٤ھ - ۱٧من آذار- مارس - ٢٠٢٣ ) .
تعليقات
إرسال تعليق