شيخ الأمة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز

شخصيات أعجبتني 

      شيخ الأمة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز


محمد نعمان الدين الندوي 

لكناؤ، الهند

أولًا ينبغي -وأنا أدَشِّن هذه السلسلة الجديدة من: «شخصيات أعجبتني»- أن أوضح بأنني لست أريد كتابة التراجم أو السير لمن أتحدث عنهم -من العلماء أو الأدباء أو الأساتذة أو الزعماء- في هذه السلسلة؛ وإنما أقصد أن أتعرض لجوانب بارزة من حياتهم من خلال مشاهداتي وتجاربي ولقاءاتي معهم، وأسجل  انطباعات عابرة عنهم، أسفرت عنها زيارتي لهم، أو قضاء ساعات معهم، أو رؤيتي إياهم عن كثب، أو تلمذي عليهم، أو تأثري بإنتاجاتهم العلمية والأدبية، أو إعجابي بجلائل أعمالهم  من حياتهم النموذجية .


كان الشيخ ابن باز رحمه الله (١٣٣٠ه‍ - ١٤٢٠ھ) غرة زمانه، وتاريخ عصره، ونسيج وحدِه في جيله، رباني الأمة، ورَجُلَها الخيِّر الموفق الذي يقيض الله تعالى أمثاله لعباده إذا أراد بهم خيرًا، وأعتز بأن أكون من محبيه، الذين  شرفوا برؤيته، وسنحت لهم الفرصة للسلام عليه مرارا، وسعدوا بالجلوس إليه والتحدث معه، وحضور دروسه النافعة وموائده السخية.

أحب الصالحين ولست منهم 

لَعَلِّــي أن أنــال بهـم شفـاعـهْ 

وأكـره من تجارتـه المعـاصي 

ولو كنا سـواءً في البـضـاعـهْ 

(الشافعي رحمه الله) 

لقد اخترت سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- كأول حلقة -من هذه السلسة- عن قصد وإرادة،

وذلك لأسباب :

منها: كونُه عالمَ بلاد الحرمين الشريفين ورجلَها الديني الأبرز في عصره.

وكونُه شخصيةً حظيت بحب الجميع، حب الخاصة والعامة، والرجال والنساء، والشباب والشيوخ، حبًّا لم أر أحدًا من علماء المملكة أو مشايخها حظي به كما حظي به شيخنا ابن باز رحمه الله:

 «ولا رأيت لكم عِدلا و لا خلَفا»

وكان حبهم له طواعيًا لا صناعيا، حبًّا خالصًا لوجه الله تعالى، لأن صاحبنا لما أخلص لله وأحبه، أحبه الله تعالى فأحبه خلقه.

نعم. أَحَبَّه من في السماء، فأحبه من في الأرض.

كان الشيخ ابن باز رحمه الله  شخصية محترمة محبوبة مباركة بكل معاني الكلمات، وكان اقتبس هذه «البركة» وهذه «المحبوبية» وهذا «الاحترام»، وتَساقُطَ الخلق عليه تساقط الفراش على النور ..  اقتبس كل ذلك من أعظم الناس بركة وخيرًا ورحمة وفضلًا، سيدِ البشرية وأفضل الرسل وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم- باقتداء منهجه واتباع سنته في كل صغيرة وكبيرة من حياته، فذاك -السير على منهج الكتاب والسنة- سر عظمة الشيخ ابن باز، وسر الحب الذي كان نصيبه، ويا له من نصيب! 

لا أذكر متى سمعت اسمه الكريم لأول مرة، ولكن أذكر جيدًا أنني سمعت اسمه أولَ عهدي بندوة العلماء (في لكناؤ، الهند) طالبًا فيها، في أواخر القرن الهجري الماضي، فكان يُذكر اسمُه الكريم في مجالس الشيخ أبي الحسن  الندوي رحمه الله و غيره من بعض الأساتذة الذين كانوا يزورون السعودية من حين لآخر، وكان يُذكَر اسمُه مقرونًا بكلمات الاحترام والتقدير التي تليق بمكانته، وأنه من كبار علماء المملكة ودعاتها، بل من طليعتهم بل وعلى رأسهم، فأحببنا الشيخ ابن باز رحمه الله قبل أن نراه، «والأذن تعشق قبل العين أحيانا»:

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى 

فصــادف قـلـبًـا فــارغًــا فتـمكنـا 

(قيس بن الملوح)

 نعم. دخل حبه قلوبنا قبل أن نتشرف بزيارته ونسعد بمقابلته.

لقد شرفني الله تعالى  بتلقي العلم  في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في أوائل هذا القرن (وتحديدًا من ١٤٠٢ه‍ إلى ١٤٠٥ھ)، فكنت أراه من بُعْد في المسجد الحرام، حيث كان يلقي فيه الدروس إذا زار مكة المكرمة، فكنت أحضر دروسه إذا صادفت زيارتي لمكة المكرمة تواجدَ سماحته أيضا فيها، وكنت أحن إلى السلام عليه وتقبيل جبهته وشرف محادثته، ولكن ذلك لم يتيسر لي ذلك في زمن إقامتي في المدينة المنورة  طالبا في الجامعة، إلا أنني كنت أسمع ذكره في الحصص الدراسية وعند المشايخ وبين الطلاب، فأزدادُ حنينا إلى شرف الحصول على  لقائه عن كثب ، وكنت أقرأ أخباره وبحوثه في الجرائد والمجلات، والشيخ كان ملء الزمان والمكان، والسمع والبصر، وكان أشهر  من قمر ومن نار على علم، وكان اسمه على كل لسان، ولم يكن أحد من الصبيان فضلًا عن الكبار لا يعرف الشيخ ولايحبه:

الخـيـل واللـيـل والبـيـداء تعـرفنـي 

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

الحقيقة أن الشيخ ابن باز رحمه الله كان  يتربع على عرش القلوب، ويحكم النفوس، إذا أطلقت كلمة (الشيخ) في أي ناحية من نواحي المملكة وخاصة في الرياض، أريد بها: سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، وكان بلغ من حب الناس واحترامهم له أن العاهل السعودي نفسه يعتز بأن  يخاطبه بـ : «الوالد».

ولا أبالغ إذا قلت: إن حب الناس للشيخ ابن باز رحمه الله كان حبًّا أسطوريًّا، حبًّا نادرًا ما يحظى به أحد، حبًّا قياسيًّا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

تخرجت من الجامعة سنة ١٤٠٥ھ، وبعد تخرجي بشهور بدأت عملي مدرسًا في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ حيدرآباد، وكان من فضل الله سبحانه و تعالى علي أنني لم أزل متشرفًا بزيارة بلاد الحرمين الشريفين -بعد التخرج أيضا- من حين لآخر، إما معتمرًا، أو حاجًّا تلبيةً لدعوة وزارة الحج بالمملكة، أو مشاركا في بعض مؤتمرات الرابطة، أو موجهًا الدعوة إلى كبار علماء المملكة ومشايخها للمشاركة في المؤتمرات والندوات، التي كانت تستضيفها جامعة دار العلوم بحيدرآباد، ولدى كل زيارتي للرياض كنت أحرص على لقاء الشيخ ابن باز رحمه الله، فكنت أذهب إلى مكتب سماحته بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، حيث كان يجلس إلى صلاة الظهر؛ فكان يستقبل وفود العالم الإسلامي التي تأتي إليه زرافات ووحدانًا:

يــزدحـم الـنـاس عـلى بـابــه

والمشرب العذب كثير الزحامْ

(نسب لبشار)

 يستقبل العلماء والطلاب والأعيان وجميع أصناف الناس من كل ناحية من أنحاء العالم، يرحب بهم هاشًّا وباشًّا، يستمع إلى أحاديثهم وينظر في قضاياهم، ويلبي مطالبهم، ويحل مشاكلهم، و لا يتضايق بهم البتة  ولا يمل ولا يعبس من كثرة ما يعرض عليه من المسائل والطلبات.

ما رأيت عالمًا يعمر أوقاته بأعمال البر و الخير والعلم والدعوة، مثل الشيخ ابن باز رحمه الله، والحقيقة أن حياته كلها كانت وقفًا على الخلق لخدمتهم بالعلم والدعوة والنصح والنصرة، وما إلى ذلك من أعمال البر والخير المتنوعة:

فقـوتُ الروح أرواح المـعاني

وليس بأن طعمت وأن شربتا

(أبو إسحاق الإلبيري) 

فلا تجده إلا محاضرًا، أو ملقيّا درس القرآن الكريم أو الحديث الشريف، أو مشتغلًا بالمطالعة أو الإملاء، أو مجيبًا لمسألة فقهية، أو مستقبلًا ضيفًا بل ضيوفًا كثرًا، أو قاضيًا حاجةً لصاحبها، أو شافعًا أو مشيرًا أو معينًا وناصرًا أو.. أو.. فكان من الذين لا يعرفون: «لا»، بل كان من أصحاب: «نعم»:

ما قـال لا قـط إلا في تشـهـده 

لو لا التشهد كانت «لاؤه» نعم! 

(من قصيدة الفرزدق في علي بن الحسين).

وكلما زرته في مكتبه بالرئاسة،  دعاني -كرمًا منه وتفضلًا- إلى تناول الغداء معه في بيته العامر، فسعدت بالأكل معه وعلى سفرته عدة مرات، وكانت طريقة الأكل عند الشيخ هي الطريقة السائدة عند العرب.

«وأعظم ما يعجبني من عادات إخواننا العرب الاجتماعية: طريقة أكلهم، فهم يجلسون حول مائدة مستديرة، توضع في وسطها صينية، وعليها الأكلة الرئيسية من الطعام المعد للمناسبة، ثم يتناول الجميع من هذه الصينية الواحدة.. ممثلين -في حالة الأكل أيضًا- النظام الاجتماعي للإسلام الذي أكد عليه ديننا الحنيف أشد ما يكون التأكيد، وما الجماعة في الصلاة إلا رمزًا من رموز الإسلام على حرصه على التجمع والتوحد والتآلف والتقارب، والحقيقة أن في هذا التجمع والتقارب يتجلى جمال الإسلام وعظمته وروحه الاجتماعية. 

ومما يروقني من آداب أكلهم -أيضًا- أن اللحم لا يكون كتلًا ( قطعًا) ومضغًا، بل يطهى الخروف كاملًا وسالمًا (طبعًا بعد تنظيفه مما فيه من الأحشاء والأجزاء التي لا يجوز أو لا يستساغ أكلها) ويوضع -فوق الأرز- على السفرة مع عينيه (اللتين تخيلان للناظرين كأنهما تريان الآكلين) واللتين تقدمان -عادة- إلى من يتمتع بخصوصية بين الموجودين»(١)

ومما كان يميز مائدة الشيخ أن الماء -أيضًا- كان يُشرب من كوب واحد مشترك، يشرب منه الجميع، حتى الشيخ نفسه كان يشرب منه. 

بعد الفراغ من الأكل كان الشيخ يجلس في قاعة كبيرة من بيته، وتقدم القهوة إلى الحاضرين، والشيخ كانت تكون بجانبيه عدة هواتف، وما كان ينتهي من الرد على اتصال حتى يرن الجرس في هاتف آخر.. وفي ثالث... والشيخ يرد على كل اتصال ولا يتضايق.. محتسبًا كل ذلك لله، ويستمر المجلس عادة إلى قبيل صلاة العصر، وفي هذا المجلس كان الإنسان يتلاقى عددًا غير قليل من الضيوف القادمين -إلى المملكة- من شتى أنحاء العالم من العلماء والوزراء والوجهاء، ويتم التعارف فيما بينهم. 

مما كنت قرأت من أخبار تسامح  الشيخ الذي قد لا يمكن صدوره من غيره، أن رجلا جاءه، وكان آنذاك رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وعرض عليه حاجته، وأنه يحتاج إلى المساعدة، فصرف له الشيخ شيكًا بمبلغ مقداره ألفا ريال (٢٠٠٠) فجعله الرجل -بزيادة صِفْر- عشرين ألفًا، وراب الأمرُ مديرَ البنك؛ لأن الرجل لم يكن ممن يصرف لهم هذا المبلغ الهائل، الذي يكاد يعادل أكثر من مأة ألف الآن، فاتصل بالشيخ، وأراد التأكد من الأمر، فقال الشيخ: كنت أعطيته شيكا بألفي ريال، ولعله يكون محتاجا إلى أكثر من ذلك؛ فلذا حوّله  عشرين ألفا، فاصرفوا له الآن عشرين ألفًا، ولا تحاسبوه.

 وسمعت أنه لو جاءه رجل يطلب المعونة، أدخل يده في جيبه، وأخذ منه ما تقع عليه يده،  وسلمه إلى الطالب مهما كان المبلغ عظيمًا وأكثر من حاجة الرجل، أي كان يعطي بلا حساب، عطاء من لا يخشى الإقلال، عطاء من يؤمن أن الله يضاعف أضعافًا مضاعفة للمنفقين في سبيل الله، وأن المال لا ينقص من صدقة أو بذل أو عطاء، بل يزداد ويبارَك فيه.

كانت شخصية ابن باز رحمه الله شخصية اجتمعت فيها عدة شخصيات. 

وكل شخصية منها كانت مثالية فذة.

 فكان وعاء مليء علمًا ومعرفة، وبحرًا أودع درًّا ولؤلؤًا.

وكان بز بثاقب نظره، ونور علمه، وبصيرته الإيمانية الكثيرَ من ذوي النظر والبصر الظاهريين..

وكان داعية إلى الله، عذب اللسان، حلو البيان، سخر مواهبه لنشر الدعوة وتبليغ الدين. 

وكان -رحمه الله- هينًا لينًا سهلًا معطاء نافعًا، جوادًا سخيًّا كريمًا، لا يرد طالبًا، ولا يؤيس راجيا، كأن يده منخل، فلا تمسك ما فيها، بل تنثر وتبعثر كل ما يأتيها.

عالي الخلق، سمحًا، لطيفًا، عفوًّا، عطوفًا، شفيقًا، خافض الجناح.

 متواضعًا، صغيرًا عند نفسه، عظيمًا في أعين الناس، ساميا عند المتابعين، مرفوع المكانة  ومسموع الكلمة ومحظيًّا بالاحترام عند ولاة الأمر، كريمًا يعطف على البؤساء، شفيعًا ذا كلمة تطاع.

زاهدًا في حطام الدنيا، معرضا عن زخارفها، طامعا في الآخرة ونعيمها، مخلصًا لدينه وأمته، محبًّا وناصحًا للإنسانية كلها. 

فلله دره من عالم عامل بعلمه، ومسعود بفضله، ومقدم بورعه على أقرانه، ومحمود بخلقه، ومشهور بكرمه، ومحترم بخصائصه وسماته .

لله دره.. ودر زمان كان من أهله.

رحمه الله ورحم من يحبه!


الهوامش:

(١) بين القوسين مقتبس من مقال للكاتب بعنوان: «ذكريات وخواطر من رحلة الطائف» نشر على وسائل التواصل الاجتماعي في جمادى الآخرة ١٤٤٤ھ.

(الاثنين: ٦ من شعبان ١٤٤٤ھ = ٢٧من شباط - فبراير - ٢٠٢٣ م ) . 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العلامة السيد سليمان الندوي

سلام على صاحب التضحية الكبرى

كان الوستانوي أمة وحده