العالم الوقور الشيخ ضياء الحسن الندوي
شخصيات أعجبتني
العالم الوقور الشيخ ضياء الحسن الندوي
محمد نعمان الدين الندوي
٤ / ١٠ /١٣٥٢ - ٢٤ / ٥ / ١٤٠٩ھ
٢٠ / ١/ ١٩٣٤ - ٢ / ١/ ١٩٨٩م
أبرز سمات شخصيته :
إذا ذُكِر أستاذنا الجليل الشيخ ضياء الحسن الندوي رحمه الله أمام تلامذته، تمثلت في مخيلتهم صورةُ :" أستاذٍ مهيب يعلوه وقارُ العالم وجلالُ العلم، خافضِ الجناح، ساكنِ الطائر ليّن القول، نبيل حيي كريم، ذي خصائص تستدعي التوقير والتكريم " ..
الجِدّ والوقار صفتان مميزتان لأستاذنا الشيخ ضياء الحسن، تأصلتا فيه بالطبع والوراثة والبيئة والتربية، و هما الصفتان اللتان كانتا تميزانه عن كثير من معاصريه .
والحقيقة أن هاتين الصفتين - الجد والوقار - تعتبران من صفات أهل العلم والنبل، فبقدر تحليهم بهما يكون احترامهم وتعظم مكانتهم لدى الناس .
ثم الوقار على رأس الصفات التي كان يتصف بها أستاذنا الشيخ ضياء الحسن رحمه الله، فالوقار كان عَلَمًا على شخصيته .. فكنت تجده وقورا في جميع أحواله وأوقاته .. وقورا في مشيته، وقورا في كلامه، وقورا في المجالس، وقورا في تعامله مع الناس، صغارا كانوا أو كبارا ..
أستاذنا الشيخ ضياء الحسن رحمه الله وإن كان جادا شديد الجدية، صاحب الرزانة والوقار في عامة أحواله، لكنه لم يكن عبوسا قمطريرا، أو جاف المزاج خشن الطبع ثقيل المعاشرة .. بل فكه المعاشرة، لطيف المحضر، ينبسط ويهش ويبش ...فكان جده ورزانته لم تكن تمنعه من ذكر بعض الملح والنوادر أثناء الدرس .. تنشيطا لأذهان الطلاب وترويحا لقلوبهم وتسرية عنهم .
فقد قيل : راوحوا القلوب ساعة فساعة، فإنها إذا كلت .. عميت :
أفد طبعك المكدود بالهم راحة
بحزم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
فالمزح الخفيف، واللفظ اللطيف، والرمز الرشيق، و التبسم المقبول .. وما شابه ذلك .. ليس مما ينافي الحشمة والوقار، بل لا بد مما يستأنس به و يستروح إليه بما لا يخرج عن حدود الشريعة .
لم يكن ضحك شيخنا ضياء الحسن قهقهة ..فلا أذكر أنني رأيته -يوما- يقهقه قهقهة عالية . . فإذا ضحك أفتر عن ثغره غالبا، واكتفى من الضحك بالابتسامة ... مما ينم عما كان طبع عليه من الجد والوقار والرزانة، والحق الذي تؤيده التجربة والحس أن الرجل كلما اكتمل عقله، وحسنت تربيته، وسلمت طويته، وتهذب طبعه، ورق شعوره، كان أبعد من رفع الصوت، وأرغب عن الزيط، وأكره للجلبة، وأزهد في القهقهة، وأعف مزاحا، وأطيب مزاجا، وأحلى كلاما، وألين قولا، وأندى صوتا. وهكذا كان أستاذنا الشيخ ضياء الحسن .. رحمه الله !
مميزاته التدريسية :
كما مضى أن أستاذنا الشيخ ضياء كان عالما وقورا في جميع أحواله وأوقاته، ولكنه إذا دخل الفصل.. فلا تسأل عن وقاره وتأدبه وحسن جلوسه، فكان رحمه الله إذا جلس للتدريس .. وخاصة لتدريس الحديث الشريف، جلس جلسة المصلي، جلس وكله أدب واحترام للعلم وطلابه، وما رأيت كأستاذنا هذا جدا ووقارا أثناء الدرس إلا نادراً جدا .
أسلوب تدريسه كان يحظى من الطلاب بكل الإعجاب والرضا، الجدير بالذكر أن أسلوبه التدريسي لم يكن أسلوبا خطابيا حماسيا، وإنما كان هادئا رزينا متئدا جميلا، يتكلم بكلام فصل واضح مفهوم، وكأنه ينثر الدرر، وجمالُ صوته الرخيم ولذة حديثه العذب كانت تضفي على درسه روعة على روعة، وتزيده إمتاعا وجذبا للأسماع، ولفتا للأذهان، ونفوذا إلى القلوب .
ومن مزايا تدريسه - كذلك - أنه لم يكن يتحذلق و لا يُغْرب، ولا يطيل الكلام طولا يمل، ولا يُجْمِلُه إجمالا يخل، وإنما كان يعتمد على كلام جامع رصين متين، لا زيادة ولا نقصان، واضح المعنى، سهل الفهم، مدعوم بأقرب توجيه وأنسبه، إذا كان النص يحتمل أكثر من معنى ..
قرأنا عليه أصح الكتاب بعد كتاب الله تعالى : [ صحيح البخاري ] ، فكان منهج تدريسه من بداية الكتاب إلى نهايته منهجا متساويا .. لا بطء ولا استعجال .. وإنما هو سيرٌ قصْدٌ معتدل متزن ينسجم مع جلالة الكتاب وعظمته، قراءة خاشعة متأنية لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسب النهج المألوف المطرد في مدارسنا بالهند ... كان أحد الطلاب يقرأ الأحاديث، وكان رحمه الله يشرح الحديث حديثا حديثا .. شرحا جامعا، يعطي الموضوع حقه من الشمول والاستيعاب لجميع جوانبه، شرحا يحل إشكالات واعتراضات قد تأتي في أذهان الطلاب، فمن هنا .. كان الطلاب قليلا ما يوجهون إليه الأسئلة، لأن درسه كان يغطي جميع الإشكالات والاعتراضات المتوقع صدورها عن الطلبة .. فلم يكن يترك لهم فرصة لتوجيه الأسئلة .. لكون درسه شاملا مقنعا حالًّا لما قد يمكن أن ينشأ في أذهان الطلاب من الاستفسارات والاستيضاحات التي يؤدي إليها التدبر والنظر والمحاولة الجادة لفهم الدرس.
والحقيقة .. هذه هي مزية المعلم الناجح أنه لا يألو جهدا في إعطاء الدرس حقه من شرح المادة - بجميع ما يتصل به من النواحي الرئيسية والجانبية - شرحا مقنعا يستسيغه الطلاب، مع مراعاة نفسيتهم وكفاءتهم وملكاتهم .
كرمه
كان كريما مضيافا، يحب القِرى، وخاصة كان حريصا على إضافةَ العلماء من أحبابه، فكان يقيم لهم مآدب خاصة، يكرمهم فيها ببعض وجباته الشهية المفضلة لديه، فكان في كل موسم الشتاء يُعد " الأكارع" (١) بنفسه، فيحسن طبخها، ويجيد طهيها، و ينظم لها وليمة خاصة تسمى :" وليمة الأكارع " ، يدعو إليها الخاصة من أحبابه مثل والدي الشيخ برهان الدين السنبهلي والشيخ أبو العرفان الندوي، والمفتي محمد ظهور الندوي رحمهم الله وغيرهم من أساتذة الندوة، واستمرت هذه الولائم الشتوية الضيائية سنوات كثيرة .. مالم تبدأ سلسلة " أمراضه " التي عانى منها، واستمرت إلى أن انتهت - بل تسببت- بموته . رحمه الله .
والدعوة إلى اللحم من دأب كبار علماء السلف رحمهم الله، فيروى أن الحسن البصري رحمه الله إذا طبخ اللحم قال : " هلموا إلى طعام الأحرار " . (٢)
أنا حين أرجع إلى الماضي، وألتفت بقلبي إلى ذكريات الدراسة ومسرات الحداثة، وأتذكر - بصفة خاصة - الأساتذة الذين علمونا وربونا، فأحسنوا التعليم والتربية، وأتذكر - كذلك - تلك الفترة الذهبية من العمر، التي قضيناها في الندوة، فترة التعلم والطموح والتطلع للمستقبل، فترة :" أحلام اليقظة " ، الفترة الخالية من الهموم وعلائق الحياة، فأقول في حسرة نفس وهِزَّة رأس : « والله كان زمان ! » .
وبعد . فهذه ومضات ولمحات من حياة أستاذنا الغالي من تلكم الصور والذكريات التي لا تزال عالقة بذاكرتي الضعيفة، كتبتها وفاء بحق للأستاذ الجليل علي، وأعترف بأن الوفاء مشوب بالقصور عن التغطية لحياة الأستاذ الخصبة ، لأنني كتبت هذه السطور - كما أشرت - بقدر ما طاوعتني ذاكرتي، وقد مضى على قراءتنا على الشيخ ضياء أكثر من أربعين سنة، وكفى بها - مدة - تأثيرا على ما تختزنه ذاكرة الإنسان .. وخاصة إذا كانت مثل ذاكرة الكاتب، التي لا تكاد تحافظ من خزينتها إلا على قدر يسير مما يصل إليها .
و أيضا - كما يقال - : إن ذاكرة الإنسان مستبدة، ويراد بنسبة الاستبداد إلى هذه الملكة العقلية أنها تحافظ وتنسى على غير قانون ثابت، وقد تحافظ بأثر صغير مضى عليه خمسون سنة، وتهمل الأثر الضخم وإن عرض لها قبل شهور أو أسابيع . (٣)
رحم الله أساتذتنا وجزاهم خيرا، إنهم - كانوا وسيظلون - عظماء سواء وفَّينا هم حقهم - من استكمال مناقبهم ومحاسنهم - أو لم نُوَفِّه .. فإن تقصيرنا في بيان خصائصهم لا ينقص من قيمة شأنهم شيئا، أو يحط من مكانتهم ذرة، ولا يحتاجون لرفع درجاتهم إلى أن نذكر فضائلهم، فقد أدوا ما عليهم، وسيوفون أجرهم غير منقوص .. عند الله الذي يعطي بغير حساب .
إضافة مهمة
بعد نشر المقال لفت بعض الإخوة الندويين الفضلاء نظري إلى مزية خاصة - من مزايا أستاذنا الشيخ ضياء الحسن الندوي رحمه الله - فاتني ذكرها في المقال، والحقيقة أن هذه الميزة كنت أنا أيضا سمعت بها، ولكن لدى كتابة المقال نسيت الإشارة إليها، والميزة هذه تكاد تفضل جميع مزايا الشيخ وخصائصه .. وهي :
مما يعرف من مزايا الشيخ ضياء الحسن الندوي رحمه الله أنه كان حفظ القرآن الكريم كاملا في شهر واحد، وتفصيل ذلك أنه كان يحفظ في النهار - من شهر من رمضان - قدرا من القرآن الكريم، ثم يقرأه في الليل في التراويح، إلى أن أكمل حفظ القرآن الكريم خلال شهر رمضان وحده .
إنني إذ أسجل هذه المزية للشيخ ضياء الحسن رحمه الله، لأشكر الأخ الفاضل الكريم على أنه ذكرني بها، فجزاه الله خيرا.
الهوامش والمراجع
(١) قوائم الدابة
(٢) أبو حيان التوحيدي : الإمتاع والمؤانسة : ٣ / ٣٧ .
المكتبة العصرية، بيروت، صيدا .
(٣) عباس محمود العقاد : أنا ص : ٤٥.
المكتبة العصرية، صيدا، بيروت .
(الاثنين : ١٢ من محرم ١٤٤٥ھ - ٣١ من يوليو ٢٠٢٣م ) .
تعليقات
إرسال تعليق